الجزيرة - وهيب الوهيبي:
قال الشيخ الدكتور قيس بن محمد المبارك عضو هيئة كبار العلماء إن الجاهلين إذا انكفوا عن العبث بشريعة الله فإنك لن تجد ما وجد قديمًا وحديثًا من الجماعات التي نبتت على جسم الأمة الإسلامية، والتي تجتهد بلا أصول؛ فتخرج منها فتاوى يضج منها العالم؛ لما فيها من اعتداء على الأموال واستباحة للدماء والأعراض. هذه الفرق تتوالد وتتكاثر بكثرة المرجعيات والزعامات؛ ذلك أن كل فرقة مرجعها هو فهم زعيمها، فإذا خرج أحد أفرادها عن فهم هذا الزعيم انقضوا عليه بالويل والثبور، ورموه بعظائم الأمور، وربما اتهموه بالخيانة والعمالة للأجنبي، وربما استباحوا دمه، وهكذا تلاعب بهم الهوى، فصاروا دعاة إلى زعامات، بعد أن كانوا دعاة إلى الله.
وأوضح الشيخ المبارك في تصريح إلى «الجزيرة» أن الاجتهاد من غير استناد إلى أصول الاجتهاد لا يسميه العلماء اجتهادًا، وإنما يسمونه عبثًا وتلاعبًا بأحكام الدين. وأسوأ العبث وأشده إذا صدر مـن أشخاص صدورهم تغلي من الغيظ غليان المرجل، فيغلبهم ما تهواه نفوسهم؛ ولذلك سمى علماؤنا من وقع في هذه البلية «أهل الأهواء»؛ وما ذاك إلا لتسلُّط أهوائهم القلبية وطيشهم على سائر تصرفاتهم. ومعلوم أن للحماس وشدة الغضب سطوة قاهرة للنفس، فيجد المغتاظ من طيش عقله لذة في ترك الاستماع لنداء العقل، فضلاً عن مقتضيات الشرع، وتجده يريد أن ينزل كلامه من القلوب منزلة القرآن.
ونفى في هذا السياق ما يتهم به البعض من أن الشريعة قاصرة وتحتوي على الكثير من القيود ولا يمكنها مسايرة العصر الحديث.
وأكد أن القصور فينا نحن، أي في عدم قدرتنا على مسايرة العصر، وليس في دين الله؛ فالجمود في الفكر يحصل إذا ابتعد الناس عن الأخذ بحقائق الإسلام. ومشكلة العالم الإسلامي اليوم هي البُعد عن المعاني الإسلامية العظيمة. فالشأن في علماء المسلمين فيما مضى أنهم كانوا يُنزلون الأحكام الفقهية على واقعهم، فكانوا يعلمون أن الأحداث والوقائع تجد وتتنامى مع الزمن، وأن النوازل لا تتناهى، ولا يحيط بها الحصر، فكان الفقهاء كلما حدثت حادثة حققوا مناطها، فنزلوا حكمها على الواقع المطابق لها؛ فلم يعرف تاريخنا العلمي جمودًا إلا في هذه الأيام التي قلّ فيها الفقه، وضعفت الملكة الفقهية رغم كثرة من يدعي الاجتهاد. وقد كان الفقهاء السابقون يحذِّرون من اليبس والجمود، وينهون عن تخريج الفروع بجزئيات المسائل، دون النظر إلى القواعد الكلية، وكانوا يطلبون من الفقيه أن يضبط الفقه بالأصول والقواعد؛ فالأمر كما قال الإمام شهاب الدين القرافي: (ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات). وقد نبَّه - رحمه الله - إلى أن الفقيه إذا جاءه من يستفتيه من غير بلده أن الواجب عليه ألا يجري الحكم على عوائد بلده هو وأعرافه، وإنما يجب عليه أن يجري الحكم على عرف السائل، فينظر الفقيه في النازلة؛ ليقف على سماتها وأوصافها؛ لينزل الحكم عليها بتطابق تام. وبهذا يتبيّن لك أن هذا الضبط للفقه بالأصول والقواعد هو السبب في عدم وجود فراغ قانوني في الشريعة الإسلامية؛ فلم يكن الفقهاء بحاجة للأخذ بسابقة قضائية ولا غيرها.