من خلال ما تقدّم نجد أن العولمة هي انفراج في التطور البشري يضع اللبنة الاولى لإنهاء استغلال الإنسان للإنسان.
لماذا اللبنة الأولى وليس البناء كاملاً؟
البناء كاملاً يحتاج الى مجهود واعي ممزوج بالتضحية ونكران الذات او ما يسمى حالياً نضال, فالعولمة ليست الجنّة بعينها ولا يجوز فهمها على أنها (الخلاص المنتظر), ولكنها بداية الطريق لتحول الوعي من الفردية والأنانية الى الوعي الجمعي.
العولمة هي التحوّل من الوعي الذي زرعته وربته فينا الملكية الخاصّة خلال احد عشر الف عام منذ بداية الحضارة, الى وعي جديد يعاني من صراع بين المصلحة الفردية الانانية والمصلحة الجمعية التى سادت قبل الحضارة.
الوعي الجمعي في العولمة يشبه الوعي الجمعي في المجتمع البدائي, ولكنه من المستحيل أن يتطابق معه, كيف ذلك؟
في المجتمع البدائي لم تكن هناك مؤسسات كالقوات المسلحة والقضاء والدستور والبرلمان ومؤسسات المجتمع المدني ...الخ, أي أن المصلحة الجمعية تتحقق بالعرف الاجتماعي النظيف او الغير ملوث بالأنانية وحب الذات. أما في العولمة توجد مؤسسات تلاحق الدنس الرأسمالي والنفسية الاستغلالية, ولذلك العولمة هي مرحلة ولن تتحقق بين يوم وليلة.
المصلحة العامة في العولمة ليست خياراً أخلاقياً كما كان في المجتمع البدائي, إنما هي واجب دستوري له آليات قضائية وتنفيذية وتشريعية وإعلامية وتعليمية وحداثوية للالتزام به.
لقد أثبت التاريخ البشري كله انه لا يجوز وضع وصفات جاهزة لما سيحدث, ولكن توجد مؤشرات تدل على الخطوط العامة لما سيحدث.
إذا تناولنا مثالاً واحداً لتلك المؤشرات - ألا وهو مسألة الفساد - فقد اكتسب معنى محدد لدى جميع دول العالم, وهو الاعتداء على الملكية العامة من جانب المؤتمنين عليها.
لم يكتسب مصطلح (فساد) هذا المعنى بسهولة, حيث كانت القدرية في جميع الأديان والإعلام المتآمر في كل مكان يجابه هذا المعنى ويزوره, ولكنه فرض نفسه فرضاً في نهاية المطاف وأصبح واقعاً مداناً ومحارباً.
لا بدّ من الاعتراف أن اللجان التي تشكّل لمحاربة الفساد في كل العالم الرأسمالي, ليست جديرة بهذه المهمة لأنها من الفاسدين أنفسهم, ولا تستطيع حتى مؤسسات المجتمع المدني المرتشية بالقيام بهذه المهمة, ولكن الفساد كان يحمل معنىً أخلاقياً وحسب, أما حالياً اصبح معناه حقيقياً وهو الاعتداء على المصلحة الجمعية, وأصبح رؤساء حكومات يمْثلون أمام المحاكم بتهمة الفساد.
السبب في الفساد والتحايل على معناه ليس فردياً ولا أخلاقياً, فأنت إنْ لم تكن فاسداً سوف لن (تؤتمن) على الأموال العامه, لأنك ستفضح من حولك, وبالتالي الفساد منشأه النظام القائم.
كيف إذن يمْثل توني بلير او نيكولا ساركوزي أمام المحاكم إذا كان الجميع فاسدين؟ وما الفائدة المرجوة من محاكمة فاسد بواسطة فاسد آخر؟
محاكمة الفاسدين حتى لو كان شكلياً هو ارضاء للرأي العام او (الجمعي), وهذا معناه أن الوعي الجمعي هو العامل الحاسم في هذه العملية الفاسدة من أولها الى آخرها, وهذا الوعي قد يخضع للتلاعب والتزييف مؤقتاً, وتنطلي عليه لعبة استبدال لص (نزيه) بلص (نزيه) آخر لم يفتضح أمره بعد, ولكن هذه العملية لن تستمر الى الأبد, وربما تتغير قبل تحقيق العولمة, وهي بالتأكيد ليست موجودة في ظل العولمة لأنها ببساطة ضد نظام العولمة ذاته.
في العولمة لا يوجد (مؤتمن) او (غير مؤتمن) على المصلحة الجمعية, فأي شخص لن يكون في موقع اداري لوحده إنما ضمن مجموعة, وهذه المجموعة مراقبة من مجموعة او مجموعات أخرى, كما أن كل المجموعات مراقبة من الرأي العام عبر الإعلام (الشريف) الذي ستتم مأسسته أيضاً, ويصبح إعلام الشعب وليس إعلام السلطان.
هذا ما يخص مثالاً واحداً هو الفساد, ولكن كيف سيكون الوضع الاقتصادي او السياسي او الاجتماعي او المعرفي في ظل العولمة؟ هذا ما لا يمكن الاجابة عليه في الوقت الحاضر, ومن الخطأ اعطاء مواصفات جاهزة من الآن, ولكنها اسئلة ملحة تستدعي تلمس المؤشرات الحالية التي تضيء الخطوط العامّة لما سوف يحدث, وهو عمل يتطلب مجهود عدّة باحثين من مختلف الاختصاصات لانجازه.
- عادل العلي