قال المتنبي في أوج يقينه بذاته:
«وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرًا
وغنى به من لا يغني مغردا
فدع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى»
هذا اليقين الصادق الذي يليق بالمتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس لا يختلف عليه اثنان.
وبعيدًا عن نقده, والحديث عنه, ليس من بيننا إلا وقد تغنى بحكمه المنثورة هنا وهناك, حتى وإن لم يكن معجبًا به.
لقد مرّ على التاريخ أدباء, وشعراء, وما زال الحاضر رحمًا خصبة, وتاريخًا ولودًا, ومع ذلك ما زلنا نتوقف تعجبًا من ثقة هذا الشاعر, بل صدق استشرافه للمستقبل الذي لم يره.
فالدهر ما زال منشدًا لقصائده, وما زالت الألسن التي أحبته, بل تلك التي كرهته، تستشهد بشعره في كل الأحوال ناسية ومتناسية, جاهلة ومتجاهلة أنها له. فمن:
إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا
ألا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ
إلى:
يا أَعدَلَ الناسِ إِلا في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ
مرورًا بـ:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
وغيرها الكثير.. الكثير.. الكثير.
كان المتنبي - وما زال - الطائر المحكي, وغيره في مخيلتنا مجرد صدى!
هذا اليقين ستجده عند من قرأ له ومن لم يقرأ!
فأي سحر خلّفه المتنبي؟! وأي يقين خبأه لصيته في جبة التاريخ، ولم تسقط منه أثناء ترحاله عبر العصور؟
لم يكن لكل هذا الصيت أن يكون لو لم يكن المتنبي شاعرًا مستشعرًا بيقينه ما قال.
سار على نهج المتنبي من سار, بعضهم أسقطه التاريخ, وبعضهم كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط.
في الأزمنة الولَّادة لا يمكننا أن نعطي حكمًا مطلقًا بأنّ فلانًا شاعر عصره, وعلانًا كاتب زمانه؛ فقد صارت الأساليب متشابه في مجملها إلا من رحم الله، والقدرة على تفتيق المعاني ليست حكرًا لأحد عن أحد, وهذا أمر طبعي إذا ما أيقنا باختلاف الزمان, وأدواته.
فالغالبية في عصرنا الحاضر يمكننا أن نخلع عليهم لقب مثقفين؛ باعتبار الثقافة الأخذ من كل علم بطرف، وعدم اشتراط التعمق في المعرفة. فمن ربة المنزل حتى العمالة المنزلية كل له فن في كل فن.
فمن مثقف الواتساب, وتويتر, وفيسبوك, إلى مثقف الكتب, والمحاضرات, والندوات.. كلهم مثقفون، وكل ما ذكرناه روافد للثقافة العصرية، لا يمكن إغفالها شئنا أم أبينا.
البعض ممن بنوا عروش أقلامهم على ضعف صاروا يعومون في بحر «أنا الطائر المحكي والآخر الصدى» بشراسة!
لا يسمحون لغيرهم بانتقادهم, ولا يمنحونك الفرصة لتقرأهم بروية وإنصاف.
مباشرة يخلقون العداء مع كبار القوم؛ ليصنعوا لأنفسهم مجدًا زائفًا، يضحكون به على مثقف مواقع التواصل البسيط الذي ربما تجرفه العاطفة، وينحاز لها.
ولأننا - العرب - تحكمنا العاطفة مع الصامت ضد المتكلم, ومع الهادئ ضد العصبي, ومع الصغير ضد الكبير, سننتصر للمتظلم - وإن كذب في قضيته -, ونرفع من قدره لشعورنا بأننا نحن الظهر والسند لنصرة من يعيشون في الظل؛ فنتبناهم ليظهروا للنور, وإذا ظهروا ونسوا فضلنا عليهم, انتصرنا عليهم مع ضعيف الظل القادم، وهكذا دواليك.
الكتّاب في كل عصرنا لا يخرجون من هذا التوصيف الدقيق الذي ذكره الروائي (واسيني الأعرج) في روايته (أصابع لوليتا) عندما قال: «يحدث لنا أن نكتب, ولا نعرف شيئًا غير ذلك.
نظن أحيانًا أنّ ما ألّفناه هو كتاب العمر, فنفاجأ بأنه مرّ بسلام, ولم يُثر حتى انتباه الصحافة الثانوية, ثم نكتب كمن يتسلى, أو يلعب, تاركين الأبواب السريّة مفتوحة, ونظن أننا استدرجنا لحظة عابرة, وقدرًا مجنونًا لنقولهما, ونمضي في الحياة، لكننا نُفاجأ بالأيادي تمتد نحو الكتاب, والألسن تسأل عنه, والأجساد تتحمل طوابير البشر الواقفين, فقط للحصول على نسخة منه».
أكاد أجزم بأنّ الكاتب الحقيقي مرّ بواحدة من هاتين الحالتين، وإذا كان منتجًا سنويًّا سيمرّ بهما معًا.
الكاتب الحقيقي سيُفاجَأ بأن لحظة عابرة، أطفأ بها وجعًا تطاير من محرقة الروح، لقيت رواجًا, ولامست وجعًا, ونبتت في روح أحدهم ناطقة على لسان جمهوره: شكرًا لأنّك كتبتنا هنا.
الكاتب الصادق لن يملك أمام هذا الإطراء إلا أن تدمع روحه؛ لأنه وحده يعلم من أين خرج هذا الحطام, ولماذا؟ يحزن لأنّ أحدهم يحمل حزنه, فيشفق عليه من وجعه. وفي المقابل يستشعر حجم عدل الله ولطافته فيجد سلوته فيما كتب؛ لأنّه سيعلم - آنذاك - أنه ليس وحيدًا في وجعه, وأن هذا الوجع وجع إنساني؛ فليس له من فضل إلا أنه استطاع برهافة حسه أن يُلبس المعاني أثوابًا تليق بها؛ لتصنع دهشة.
الكاتب الذي يستشفي بحرفه, ويتطهر.. الكاتب الذي لا يكتب إلا ليتنفس، غالبًا ما يلامسان الروح, وهي بدورها كفيلة بأن تسيطر على العقل والقلب معًا؛ فينمو من هنا نجاح الكاتب, وجماهيريته.
لقد كان المتنبي يسلخ المشاعر التي يشعر بها, ينحت يقينه؛ لنعيشه ونصدقه.
كذلك الكاتب الصادق المؤمن بما يكتب لا بد أن يلامس كل روح سليمة قرأت له.
ولن ينفي هذا الأمر أن يكون له أعداء ومبغضون؛ فالمتنبي المقنع هو الآخر لم يسلم من الأعداء.
- د. زكية بنت محمد العتيبي
Zakyah11@gmail.com