تُعد الثقافة الإسلامية ثقافة شمولية في مبناها ومعناها، غايتها الإنسانية في كل زمان ومكان، وما يُميزها وسطيتها في المنهج والطرح، وهي قبل هذا وذاك؛ تجيء ثقافة عالمية لكل أحد من البشر؛ لاستنادها على جلالة المصدر الرباني، الذي أكسبها ثباتًا في أصولها وكلياتها، وهذا الثبات كفل لها ضبط السلوك الإنساني في تعاملاتها كافة؛ كون الثقافة الإسلامية مسؤولية اجتماعية، غايتها الإنسان، تُحصنه وتذود عنه؛ ليصلح له الحال والمآل في الفناء والبقاء.
لا شك أن الإعلام الاجتماعي يجيءُ إعلاما جماهيريًا لا فرديًا، فهو ينطلق من الجمهور ليعود إلى الجمهور، وفيه يدور ما يدور: من خير وشر، وضلال وظلال، ويُتيح قدرا -قد يزيد أو ينقص بحسب الفضاء السلطوي- من الحرية العرجاء، بلا ضابط يُقيد تحنفها.
هذا الإعلام الاجتماعي الجديد بجماهريته المختلفة وحرياته المتعددة، بات سلاحا ذا حدين؛ يصنع قرارًا ويُفعّل رأيًا فيؤول الآخر صراعا فضياعًا أو اهتداء، كيف لا! وهو يُسيس لثورات واتجاهات الشعوب فكرًا، ومعتقدًا، وسلوكًا، فجاءت هذه الدراسة لتنشد عن الآلية في توطين وبناء الوسطية العظمى والمنهجية الثقافية في تلك الوسائل الاجتماعية التي يجب أن تكون فاعلة ومتفاعلة تنظيرًا ودراسًا في مقررات الثقافة الإسلامية، وتطبيقًا وممارسة في الواقع الافتراضي والحقيقي؛ لتحد من مد نفوذ هذا الغزو الإعلامي الاجتماعي، العنيف في انحرافاته، والمقصود في توجهاته، والخبيث في أهدافه العدائية للإسلام وأهله، في طرح متزن، يدعو إلى التواصي بفقه الثقافة الإسلامية على بصر وبصيرة في الممارسات الواقعية والافتراضية، وسَن مواثيق تضبط وتتصدى لوبال وسائل التواصل الإعلامية الاجتماعية؛ لتحصن الأجيال جيلا بعد جيل،حفاظًا للهُوية الإسلامية من الانسلاخ بالآخر أيًا كان. ومن هنا جاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء على الإعلام الاجتماعي الجديد، مقتصرة على مجتمع (تويتر) كنموذج للدراسة، من خلال زوايا ثلاثة:
أولها- الانحراف الفكري.
ثانيها- الانحراف العقدي.
ثالثها- الانحراف السلوكي (الانحلال الأخلاقي).
الانحراف لغة واصطلاحا:
الانحراف لغة: هو الميل والعدول، والانحراف عن الأشياء يعني: عدول وميل عنها. (انظر مادة: حرف، ابن منظور، دار صادر)، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)،
(الحج:11)، والأصل في شريعة الإسلام الوسطية والاعتدال، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، (البقرة:143)، وقوله: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ* إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)،
(الزخرف:43)، وقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)، (المائدة: 77) ومما سبق يتجلى لنا أن منهجية الإسلام تلح على الوسطية وتنبذ الغلو نبذًا، فهي تستقيم بالاعتدال وتميل بالعدول عنه إلى غيره.
ويعد مفهوم الانحراف الاصطلاحي من المفاهيم التي يُختلف فيها، فكلٌ يعرفه بحسب المجتمعات والمعتقدات والقيم التي تختلف من بيئة لأخرى، ويبدو أن أقرب مفاهيم الانحراف الاصطلاحي هو الميل عن الاستقامة إلى الانتكاسة، واتباع هوى يُفضي إلى ضلال يُوقع صاحبه في سبل الضلال والرذائل والانحلال: فكرًا ومعتقدًا وسلوكًا.
الانحرافات: الفكرية/ العقدية/ السلوكية في الفضاء التويتري:
إن الأمن الفكري ركيزة أساسية؛ لأن الفكر إذا انحرف تبعه المعتقد ولحقه السلوك في المجتمع، فالانحرافان: العقدي والسلوكي لا يتأتيان إلا بالانحراف الفكري ابتداء، فهو سابق لما هو لاحق به، يبدأ بالفرد ويتعدى أثره للمجتمع فتتسع دوائره لتعم الفوضى، وتنرل البلوى.
ولطبيعة مفهوم الانحراف الاصطلاحي للفكر فإن الضابط في معاييره سيكون ضابطًا نوعيًا ونسبيًا في المجتمعات والبيئات لارتباطه بالأعراف والعادات والممارسات الاجتماعية، ولتباين قيم الضمير الإيماني والاجتماعي في كل وادٍ، وقد يتوب الفرد من انحرافاته -خاصة إذا كان مؤثرًا- بعد أن يورط جيلاً وأجيالا بما كان يؤمن به، فيلحق الضرر بغيره.
ولعل أبرز الانحرافات التي تُرجمت في الإعلام الاجتماعي الجديد (تويتر) كلها تدور في فكرة واحدة وهي: خروج بعض المغردين عن المنهجية الوسطية في تعاملاتهم كافة: دينيًا، وفكريًا، وسلوكيًا، ووطنيًا، ونفسيًا وسياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا، فذاك يتطرف، وذاك يفرط ويقصر، وآخر من كان بين ذلك قوامًا، وأسوأهم من لا تحس له ركزًا ولا حسًا، أو مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء، لا مبادئ له تردع ولا دين يقف بجلالة له ويذود عنه.
ويبدو أن أكثر الانحرافات حضورًا في (تويتر) هو الانحراف اللفظي المكتوب في المقام الأول ثم يسير في ركبه الفعل ثانيًا، وهذا طبعي لأن الفضاء (التويتري) فضاء كتابي وإن كان له ملحقاته الصوتية والمرئية، وأغلب الظن أن غالب الانحرافات لا تصدر إلا من جاهل يتعالم أو سفيه يُريد أن يخالف فيعرف، بعد أن اتبع هواه وصار أمره فرطًا.
وتتمايز درجات الانحرافات بأنواعها فيما بينها في الفضاء التويتري غير أن أبرزها -فيما يبدو- تداولاً وانتشارًا بين المغردين هي: الانحرافات الفكرية العقدية والسلوكية وما فيها من انحلال أخلاقي مجتمعي، وكلها تسبح في فلك: الدين والجنس والسياسة.
إن الدين الإسلامي خط أحمر لكنه في تويتر يُتجرأ عليه ويُهاجم بدعوى حرية التعبير عن الرأي، وهذه الحرية تلبس جلبابًا آخر لها مآرب شتى وأهداف تنشد المنتهى، بالإضافة إلى الإلحاد والشرك بالله والتكفير، وفتح باب الاجتهاد الفقهي بلا وعي وفتيى بلا علم، وزد على ذلك الابتداع في الدين وضلال العبيد، وتضليل نور الإسلام، والاستهزاء بآيات الله وجعلها مادة ومحتوى للنكات، والسخرية بالرسول -صلى الله عليه وسلم- والخروج على ولاة الأمر، والاستهزاء بالعلماء المعتبرين شرعًا وعلمًا، والتشهير بالأعراض وانتهاكها، وتعارك الرموز التي يُعول عليهم المجتمع فيما بينهم، وهذه الانحرافات هي جزء من منظومة كبيرة تتسع كلما اتبعنا أثر مسيرها هناك في الفضاء التويتري.
ويتجلى بعض الانحراف اللغوي العربي في تويتر بآليات مختلفة: انحراف في كتابتها ودمجها مع غيرها من اللغات ومسخ لهويتها، فالعربية تبتز من بعض أبنائها وتحارب وتُرهب ويشكك في صلاحيتها للزمان والمكان بين أهلها وناشئة شبابها.
ولا شك أن الانحراف في تفسير نصوص الوحيين، وتأويلها، والاستدال، وتقديم العقل على النقل بهما بحسب الهوى ضلال إذ لا بد أن يرتكز تفسيرهما على فقه دقيق وعميق للغة العربية، والسنة النبوية، والسلف الصالح، قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)، (الأنبياء: 18).
ولا شك أن الانحرافات السلوكية للأفراد والجماعات على أمن الدولة يعصف بوحدة صفها، ويمزق لحمة وطنها، وتثير فوضى وثورة بين شعبها وحكومتها بدعوى التجديد والإصلاح.
حتى المرأة في تويتر يسعى اللبراليون ومن يتربص بها إلى انحرافها، وهي تشكل هدفًا رئيسًا يسعون لنواله بدعاوى يخفون منها ما لا يبدونه لها ولمجتمعاتهم؛ لأن المرأة إذا انحرفت انحرف المجتمع ومتى ما استقامت صلح أمر الأسرة والمجتمع، وتظهر أبرز دعاويهم في: الحجاب، والاختلاط، ونزع الحياء منها بدعوى الحرية والمطالبة في حقوقها وفي الحقيقة لا يطالبون بها لها وإنما يسلبونها إياها!
وهذه الانحرافات السابقة تعزز فيما يظهر من قبل أفراد وجماعات ومؤسسات في فكر الشباب ذكورًا وإناثًا، ويجتهدون في أن يزرعوا فيه ما يريدونه ابتذارًا ونتاجًا، ظاهره الإعمار وباطنه الانهيار، فإذا لم يحصن الشباب تحصينًا ابتداء ظهر اليباب انتهاء، ولات ساعة مندم لمجتمعاتهم، وعليه يتوجب على كل مسؤول في مكانه الاعتناء بهم وحوارهم ليصلح أمرهم ويستقيم فكرهم، وترد ما يدور في فكرهم من شبهات ومزالق.
وهذه الانحرافات الفكرية والعقدية والسلوكية في تويتر تمارس عبر آليات إلكترونية مختلفة وقنوات لا تفتأ مجراها بأشكال تتداعى، فهي تفعّل في المعرفات بأسماء مستعارة وصريحة وتبدو الجرأة أكثر في المستعار منها، وفي صفحة التعريف وخلفية صورته (البايو)، وفي التدوير (الرتويت)، وفي المفضلة (فافوريت)، وفي لغة الحوار بين المغردين، وغياب الوعي بقيمة الأوقات المهدرة في ذاك الفضاء، وفي صفحة المتوفين عِبَر لمن ألقى بصره وبصيرته، وأصلح الحال قبل أن يبغته المآل.
إن الإعلام الاجتماعي التويتري ليس هو الوحيد والمتفرد بمجموعة هذه الانحرافات والإشكاليات والمآزق، فما يُرى فيه هي نقطة من بحر أمواجه لا تهتدأ، وتشكل خطرًا أوسع يُزاحمه: (السناب شات)، و(الواتساب)، و(اليوتيوب) وبرامج إعلامية اجتماعية تنافسية تتبارى فيما بينها وأخرى تتوارى.
وهذه الانحرافات لا تقتصر على الإعلام الاجتماعي فهي واردة بصور متباينة بين غلو وعلو، وإفراط وتفريط، وتقصير وضرر، وميل ونيل، فالإعلام العام بقنواته المختلفة رسميًا وغير رسمي المسموع منه والمرئي والمقروء، كلها تتعاضد معًا فتخرّج لنا في بعضها ما يُفجع ويوجع، والجمهور المتلقي لها فيما تبث عبر أثيرها بين وعي وغي، جزء منهم حيارى والآخر غيارى، والأدهى أن يُحارب الدين في بلد التوحيد ومن قبل بعض أهله المنتسبين له اسمًا لا انتماء.
وهذه الانحرافات التي تتجلى في تويتر هي ليست نتاج الإعلام العام والاجتماعي وحده، بل يتضافر معه التعليم والابتعاث، والغزو: الاستعماري، والفكري، والثقافي، والعولماتي، وجزء من الترجمة والأدب والنقد، والانسلاخ من الهوية إعجابًا بما عند الآخر وصدمة بحضارته بلا ضابط ولا حد يؤطر حدود خارطة الإعجاب على بصر وبصيرة، فيتحول الأمر من إعجاب إلى انقلاب به يكون الاقتداء والاقتفاء والاكتفاء بلا وعي.
ومما لا شك فيه أن هذه الانحرافات التي تُغزو تويتر في الإعلام عامة والاجتماعي منه خاصة خطرها يتوزع على الأفراد والمجتمع ونظام الدولة بأصعدتها كافة وعلاقاتها داخليًا وخارجيًا، فتعرى عراها علنًا فيتهاتف الأعداء على ثغورها. وهذه الانحرافات العامة في تويتر بأطرها الفكرية والعقدية والسلوكية كافة لها مسبباتها ومثيراتها، ولعل من أبرزها فيما يظهر: ضعف الوازع الديني ونهي النفس عن الهوى، وسوء التربية، والجوع العاطفي، والحرية المزعومة، وعنوسة الرجل والمرأة، ورفقاء السوء، والجهل، وصمت المجتمعات، والتقصير بالأمر المعروف والنهي عن المنكرات واقتصارها على فئة دون غيرها.
وهذه الانحرافات المنتشرة في المجتمع التويتري والإعلام ككل لن تطيب وتتعافى إلا بالعودة إلى نصوص الوحيين والاستمساك بهما وفقهما، يتبعهما سلف الأمة الصالح، والتربية الإسلامية السوية والتعليم، والالتفاتة الجادة إلى المناهج عامة ومفردات مقررات الثقافة الإسلامية خاصة وطرق تدريسها لما لها من أثر لا يُتجاهل فهي ساهمت في تحصين الطلاب والطالبات وتحقيق الأمن لهم بشكل عام: فكريًا، وطنيًا، اجتماعيًا، نفسيًا، سياسيًا، اقتصاديًا، ثقافيًا.
وبما أن الثقافة الإسلامية مسؤولية مجتمعية فلا بد أن يتفاعل أعضاء هيئة التدريس من غير المتخصصين بها ليتشاركوا ويتقاسموا الهم فيما بينهم لنشر الفكر الوسطي بين طلابهم
-ابتداء بأنفسهم ليُقتدى بهم ويتُقبل منهم- دون مبالغة أو تطرف، أو تفريط من جهات وتقصير في آخر.
إن مفردات مقررات الثقافة الإسلامية ينبغي أن يُنظر لها نظرة إيجابية شمولية تفاؤلية، لاسيما في دورها المنوط بها تنظيرًا وممارسة، ولا بد أن تلحقها كغيرها من المقررات ضرورة التطوير في مناهجها وآلية التعاطي لها، ولربما كان الوجع الأكبر لهذه المفردات طريقة التلقي لها من قبل الأساتذة والطلاب معًا، فكل واحد ينظر لها بمنظوره الذي يستند إليه فيؤمن به، غير أن مقررات الثقافة الإسلامية -فيما يبدو- في مجملها ذات علاقة تكاملية تعاونية توعوية تصافح المقررات الجامعية الأخرى وتلتقي في معظمها في مختلف التخصصات، ويبدو أن إلحاق مقررات الثقافة الإسلامية في التعليم العام والعالي بات ضرورة ولزامًا في الواقع الحالي المتعارك فيما بينه، ولا بد أن يكون من ضمن مفردات مقرراتها الالتفاتة الجادة للإعلام الاجتماعي بما فيه من علل وملل وانحرافات وتجاوزات إذ إنه مجتمع في مجتمع، فهو ينطلق من الواقع الاجتماعي إلى الفضاء الاجتماعي الإلكتروني وكلا المجتمعين انعكاس للآخر ومرآة له في كل.
ونحن بعد هذا كله لا نلغي إيجابيات وحسنات الإعلام الاجتماعي، وإنما نصف الظواهر هناك ونسعى جاهدين لمعالجتها بعد معرفة مسبباتها، والحرص على التعامل مع هذا الإعلام الاجتماعي بحذر وباحتراس الفقيه، لئلا يكون ندامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
- تهاني العيدي