إن المتتبع للأحداث المتسارعة في هذا العصر؛ والمتأمل للاضطرابات التي تحدث بين الحين والآخر؛ والتي ذهب ضحيتها أبرياء؛ يعلم قدر نعمة الأمن، الذي لا أحد يستطيع الاستغناء عنه؛ إذ الأمن كاالهواء، ونحن في المملكة العربية السعودية بلد الإسلام ومأرز الإيمان امتن الله علينا بالأمن؛ في حين يتخطف الناس من حولنا قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
وهذا الأمن إنما حصل بالإيمان، والأمن والإيمان متلازمان، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (إذا رأى الهلال قال اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام هلال خير ورشد ربي وربك الله)، وهذا يوسف - عليه السلام - لما استشعر الأمن في مصر، استدعى والديه، واستدعى إخوته عليه السلام فقال: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ}. ومن فكره سالماً من الانحراف؛ ولم يسمح للمنحرفين فكرياً أن يلوثوا فكره؛ فليشكر ربه؛ لأن النعم إذا شُكِرَتْ قَرَّتْ وإذا كُفِرَتْ فَرَّتْ؛ فالأمن نعمة عظيمة لا يعرف قدرها ومنزلتها وقيمتها إلا من افتقدها، ولو حلقت ذهنياً؛ وأنت في مكانك لبلادٍ اضطرب فيها الأمن لرأيت دماراً شاملاً ومناظر يندى لها الجبين، وتفوق كل التوقعات؛ كل هذا حدث بسبب تعطل أمن فكري. ولماذا ننتظر حتى يأتي ذلك اليوم الذي نقدر فيه قيمة الأمن الفكري الحقيقي؟ ولماذا لانحافظ عليه قبل أن نفقده؟
وثمّة سائل يسأل عن مفهوم الأمن الفكري؟ وسبل تحقيقه؟ فالجواب على الرغم من عدم اتفاق على تعريف واحد إلا ان المفهوم فيه تقاطعات مشتركة بين الباحثين؛ وببساطة فالأمن هو ضد الخوف قال تعالى: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}، وبتحقيق الأمن الفكري نستطيع أن نحافظ على ثوابتنا؛ ونحصن فكرنا من كل مايلوثه من فكر دخيل علينا وأن نفلتر الغث من السمين بواسطة عقولنا التي بها نميز بها وندرك فهم العقيدة الصحيحة فهماً حقيقياً. وهذا الفهم يجعلنا نتحصن عن الغزو الفكري؛ ومن المناسب أن نتذكر تعريف الغزو الفكري حسب تعريف سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حينما قال: الغزو الفكري هو مصطلح حديث، يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم؛ للاستيلاء على أمة أخرى، أو التأثير عليها، حتى تتجه وجهة معينة، وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المآرب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منها أن تكرهه.
وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها، ولا تدري عنه، ولذلك يصبح علاجها أمرا صعبا، وإفهامها سبيل الرشد شيئا عسيراً.
ولقد أكد الإسلام على ضرورات خمس هي: (الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال)، كل هذا التأكيد؛ من أجل أن يتحقق الأمن للناس؛ ويتعايش المسلم مع أخيه في أمن وأمان، يعبد ربه، ويحقق هدفه؛ ولا يمكن تحقيق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن المسلم أخو المسلم، وأنه كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؛ لن يتحقق ذلك إلا بحفظ هذه الضرورات الخمس من الغزو الفكري، ومن أي أعتداء على هذه الضرورات؛ وكل اعتداء على هذه الضرورات قولا أو فعلا، فإنه محرم تحريماً متفقا عليه بالإجماع.
ومع تحقيق الأمن الفكري فلن يكون هنالك خوف على الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. وإذا لم تصبح للضرورات الخمس أي قيمة عند الفرد، وكل يفتي بغير علم، والأفراد تجاهلوا الرجوع لعلماء الشريعة؛ ولاسيما في النوازل فإن الأمن سيضطرب عندئذٍ. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وللأمن الفكري سبل متعددة لتحقيقه منها: وسطية الإسلام واعتداله؛ حيث الإرهاب وُلد من رحم التطرف؛ الذي أوجد أرضا خصبة، ترعرع عليها الإرهاب، وتفشى في أفكار الشباب الذين ينقصهم العلم الشرعي؛ وأن معالجة الأسباب الفرعية - مهما كانت السُّبل - لا تنجع دون معالجة السبب الحقيقي، ولن يتحقق ذلك إلا بنشر المنهج الصحيح الوسطي المعتدل؛ وفهم العقيدة الصحيحة فهماً حقيقياً، وضرورة التمييز في معرفة الأفكار المنحرفة والتحصين ضدها؛ وعدم التبعية والانقياد وراء الاشخاص الذين ليس لديهم علم شرعي، وكذلك بناء محبة الوطن في نفوس الأفراد والانتماء لترابه الذي ترعرعنا عليه، وأكلنا من خيراته، وأن ذلك لا يتعارض مع الدين؛ بل هو الدين؛ فلنا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ حسنة، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد» وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله عندما أخرجه الكفار من مكة إلى المدينة قال عن مكة: «والله إنك لخيرُ أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجتُ منك ما خرجتُ». رواه الترمذي.
د. الأدهم بن خليفة اللويش - عضو إدارة الأمن الفكري وعميد القبول والتسجيل بجامعة حائل