الرياض - أسامة الزيني:
كنت في طريقي إلى الخروج من باب الطائرة وأنا أنحني لرئيسة طاقم الضيافة التي وقفت تودعنا معرباً لها عن شكري لها وللطاقم. وقعت عيناها على رواية كانت في يدي، فأبدت إعجابها بها مؤكدة أنها قرأتها، وأنها رواية ماتعة. مضيت مسروراً بهذه المصادفة، فمن الجميل أن تكون القراءة رحماً يجمعك بمن حولك، حتى من تلقاهم لقاءً عابراً.
كثير من العلاقات تنشأ بين العابرين في المطارات والمتجاورين على مقاعد الطائرات من أجل كتاب، فالكتاب موضوع حياة، ووجهة نظر يمكن أن تكشف لك عن أن الجالس بجوارك شخص يشبهك كثيراً في اهتماماته وقراءاته وأفكاره، تماماً مثل هذا الشاب الذي جلس يطالعني في عربة المترو بإحدى العواصم العربية وأنا أقرأ كتاباً، ثم اقترب مني بعد خروجنا داخل المحطة وكان هو الآخر يحمل كتاباً، وتعرف إلي ثم سألني عن أفضل الروائيين الذين أقرأ لهم ليضم المزيد من الأسماء إلى مكتبته، معرباً عن اهتمامه مثلي بالقراءة، فنصحته ببعض الكتاب.
ابتسامات عربية
في طريق عودتي من هذه الرحلة كنت في عجلة فنسيت أن أخرج من حقيبتي كتاباً أصطحبه في المطار وعلى متن الرحلة، ولم يكن أمامي سوى أن أجلس في صالة الانتظار أطالع المسافرين العرب المستغرقين داخل أجهزة هواتفهم النقالة، يقلبون صفحاتها ويبتسمون للدعابات والطرائف سواء التي يتبادلونها مع أصدقائهم، أو التي يطالعونها على صفحات مواقع التواصل، في حين كان المسافرون الأوروبيون كل منهم يصطحب كتابه، ويجلس مستغرقاً فيه.
على الشواطئ ما إن يفرغ الرجل أو المرأة الأوربية من السباحة، حتى يتمدد أحدهما تحت الشمس مستمتعاً بقراءة كتاب لم يصطحب معه شيئاً غيره من الغرفة، في مشهد يجسد حالة من الاستمتاع بالقراءة عندهم لا يضاهيها إلا الاستمتاع بالطعام وتبادل الفكاهات على الهواتف الذكية عندنا.
ويبقى أكثر المشاهد ارتباطاً بذاكرتي مشهد تلك الأسرة الأوروبية المؤلفة من زوج وزوجة وابنة مراهقة وطفلان، وفدوا علينا في قاعة الانتظار وكانت المقاعد جميعها شاغرة، فافترشوا الأرض بحقائبهم، وقبل أن يعتدل كل منهم في جلسته امتدت يده إلى حقيبة كتفه فأخرج منها كتاباً، وجلسوا جميعاً يقرأون.
كان المشهد الذي بدا معتاداً لديهم، ومستغرباً لدي بوصفي عربياً، عميق الدلالة، على ثقافة مجتمعات اعتادت أن تشغل أوقات انتظارها بالقراءة، يستمتعون بتقليب صفحات الكتب أكثر مما نستمتع بتقليب صفحات هواتفنا الذكية.
وتتسع قصص عالم القراءة في المطارات لأكثر من هذه المصادفات المتناثرة، فأحد أكثر الكتب إمتاعاً في العالم يحمل اسم (أسبوع في المطار) لمؤلفه ألان دو بوتون، الذي يتضمن موقفاً غريباً، عندما اكتشف المؤلف أن أكبر مكتبة في مطار هيثرو بالعاصمة البريطانية لندن لا تحتوي على كتبه، وقتها قرر دو بوتون الدخول في محادثة مع مانيشانكار، مدير المكتبة عن الأشياء الإضافية التي قد تكون متوفرة في المكتبة. وكتب دو بوتون قائلا: «أوضحت له أنني كنت أبحث عن ذلك النوع من الكتب الذي يعبر فيه صوت لطيف عن العواطف التي أحس بها القارئ لفترة طويلة، ولكنه لم يفهمها فعلا من قبل؛ تلك العواطف التي تنقل الأشياء السرية اليومية التي يفضل المجتمع بأكمله تركها وعدم التحدث عنها؛ إنها العواطف التي تجعل المرء يشعر بأنه ليس وحيدا وغريبا نوعا ما».
في مطار هيثرو
يورد كتاب «أسبوع في المطار» تفاصيل عن الوقت الذي أمضاه دو بوتون ككاتب يقيم في مطار هيثرو بدعوة من شركة «بي إيه إيه» المالكة له. من الناحية التاريخية، لم يكن مطار هيثرو مكانا يحتفى به في أحيان كثيرة، حيث قال عنه كاتب الدراما دينيس بوتر في السبعينات: «لم أفهم مصطلح (مرض ميئوس من علاجه) تماما حتى رأيت مطار هيثرو».
لكن مطار هيثرو شهد عام 2008 افتتاح صالة جديدة رائعة للركاب وهي «صالة ركاب 5». لم يستطع دو بوتون - رغم عزمه على عدم الترويج لـ»بي إيه إيه» - إلا أن يعجب بها. تجاهل دو بوتون إلغاء الرحلات وفقدان الأمتعة اللذين أصابا صالة الركاب الجديدة عند افتتاحها، مركزا عوضا عن ذلك على جمال المكان.
حيث كتب: «كان المبنى المكون من الزجاج المتموج والمعدن أكبر المباني في المكان، حيث يبلغ ارتفاعه 40 مترا وعرضه 400 متر بما يماثل أربعة ملاعب لكرة القدم، ومع ذلك فالمكان يعطي إحساسا بالإشراق والراحة الدائمين كعقل ذكي يفكر بدأب في الأمور المعقدة... يمكن مشاهدة وميض حمرة أضوائه عند الشفق من قلعة ويندسور بالإضافة إلى هيئة الصالة التي تجسد وعود الحداثة».
لكن أفضل ما في كتاب «أسبوع في المطار» هو التأملات المتفرقة لأشياء أخرى مثل الطعام الذي يقدم في المطار والخطوط الأمنية والأمتعة والشعور بالدنو من الموت في هذه الأماكن. رغم تناول الكثير من الروائيين والمجلات الهزلية المصورة والشعراء ومؤلفي أغاني «الهيب هوب» لهذه الأمور مرارا، فإن دو بوتون قد أوجد لنفسه مكانا خاصا به يميزه.
إنه يرصد «القبلة المترددة» من الفم المطاطي للممشى المتحرك للطائرة القادمة. إن الذين يشتكون من المراكز التجارية الصارخة التي تموج بالحركة في المطارات (التي يحبها دو بوتون) مهتمون بـ»الرغبة في الحفاظ على الكرامة في مواجهة الموت». ويلاحظ الكاتب أن الأثرياء يحملون أقل عدد من الأمتعة لكن كتابته بشكل عام عن هذه الطبقة لا معقولة.
إن «أسبوع في المطار» كتاب رقيق للغاية، فهو يكتب عن أبوين مطلقين وأبنائهما اضطروا للتنقل بالطائرة لملاقاة بعضهم بعضا، ويقول إننا: «قد نمضي أفضل أيام حياتنا العملية نتظاهر بالقوة والصلابة، في حين أننا في النهاية بشر ضعفاء للغاية».