كان يوم السبت 27 أبريل 2013 يوماً رائعاً حقاً، فقد بتنا الجمعة- ليلة السبت في فندق جميل ومنظم يبلغ ارتفاعه 12 طابقاً واسمه: «أجنحة برلنت الشمالية» حيث استأجرنا غرفتين متجاورتين واسعتين تفتحان على بعضهما البعض. حقيقة لم تكن تهمنا الغرف أو الفنادق كان يهمنا الاسترواح من عناء الرحلة المتواصلة، فمبيتنا بالفندق كان من المفارقات، يوم في قلب الصحراء والجبال والمنحدرات الوعرة، ويوم في فندق أو أجنحة مفروشة، لكن أكثر الأيام والليالي قضيناها في الصحراء أمام جبال «طُمية» مرة أو في دارة «جلجل» أو أمام جبال «القهر» و»طلحام» أو أمام «الدخول» و»حومل» أو أمام برقة «ثهمد» أو أمام جبال» أجا».
هكذا مرَّت أيام الرحلة التاريخية ولياليها التي قطعنا فيها أكثر من 10 آلاف كيلومتر وزرنا فيها عشرات الأماكن الوعرة أو السهلة التاريخية والأثرية والجمالية التي وقف عليها الشعراء العرب القدامى في عصر ما قبل الإسلام وما بعده.
فقابلنا لبيد في «أجذاع بيشة» وتوبة الحميري عند جبال «القهر» ومعه ليلى الأخيلية، وسلمنا على امرئ القيس عند «سقط اللوى» والتقينا بطرفة بن العبد عند «برقة ثهمد» واستضافنا حاتم الطائي في منازله، واحتفى بنا عنترة العبسي عند عينه: «عين عنترة» وفي «الجواء»، كما قابلنا زهير بن أبي سلمى عند داحس والغبراء والشاعرة: الخنساء عند واحة: «صُفيْنة».
هي رحلة تاريخية بل ريب بالنسبة لي على الأقل، أحمد الله كثيراً أن يسّر لي أن أقوم بها مع زملاء الرحلة، وأحمده كثيراً أيضاً على أن نجّانا في هذه الرحلة من الأماكن الوعرة الخطرة التي لم يزرها أحد ونجانا من لدغات الأفاعي والعقارب ومن وعورة الطرق بمرتفعاتها ومنحدراتها وصخورها ونفودها.
كان يوم السبت رائعاً، حيث استيقظنا مبكرا، ولبسنا على عجل، وحين خرجنا من الفندق كان الطقس جميلا، الغيوم البيضاء والسوداء تستعد لإنزال ما تحمل من مطر. ذهبنا لمطعم شعبي يمني اسمه: «الماقد» تناولنا فيه طعام الإفطار: فول، كبدة، شكشوكة، بيض مقلي، بيض طاوة، خبز ساخن يسمى: «تميس» وهو نوع من الخبز الأفغاني ينتشر بالسعودية في مطاعم الفول التي تقدم أنواعاً من الفول: فول جرة، فول قلابة، وفول طاوة. أما الخبز فهو يشبه «الخبز الفلاحي الكبير» الذي نصنعه في الفرون البيتية بالريف.
بعد أن تناولنا الإفطار الساخن الشهي شربنا الشاي الليبتون، وبسبب طعمه اللذيذ طلبت شايا آخر، شربته بالسيارة.
ذهبنا قاصدين جبل «المجمرة» الذي يسمى: «مجمرة حاتم الطائي». كانت السماء قد بدأت في إنزال أمطارها بشدة، واصلنا السير بحثا عن جبل حاتم الطائي الذي كان يوقد عليه «مجمرة» كبيرة، نارا كبيرة ليهتدي إليه الضيوف، قائلا لعبده:
أوقدْ فإن الليل ليل قرّ
والريح يا موقد ريح صرّ
عسى يرى نارك من يمرّ
إن جلبتْ ضيفا فأنت حرّ
أخذنا وقتاً طويلاً حتى وصلنا إلى بوابة كبيرة مغلقة ملونة بالبرتقالي، قال لنا الحارس: «ممنوع الدخول» وأضاف: «هذا منتجع سياحي»، لكن الجبل بالداخل.. في البعيد وراء المنتجع ولا طريق للوصول إليه سوى من هذه البوابة.
لحسن الحظ جاءت سيارة لكزس حديثة موديل 2013م توقفت جوارنا أمام البوابة، كان يقودها شاب عرفنا بنفسه أنه شقيق صاحب المنتجع واسمه: «محمد الفايز» تحدث مع الدكتور عيد اليحيى منظم الرحلة وقائدها من السيارة وأخبره الدكتور عيد أننا فريق علمي قادم من الرياض لتصوير جبل حاتم الطائي ومنازله، فأمر الفايز الحارس بفتح البوابة واستضافنا الشاب في استراحة المنتجع، وقدّم لنا بكرم حاتمي:القهوة والشاي والتمر، ودار حوار ممتع حول المكان والمنتجع وحائل وحاتم الطائي والأماكن السياحية والتاريخية.
كان المطر لا يزال في شدته وجماله معاً، فانتظرنا حتى يخفت قليلاً، وبعد مرور ساعة تقريباً خفت المطر قليلاً، وقمنا ركبنا سياراتنا وقام محمد الفايز بركوب سيارته وصعدنا إلى أعلى الجبل، حيث مهدت الشركة المسؤولة عن المنتجع طريقًا واسعًا دائريًّا لصعود السيارات، وأخذنا في الصعود حتى وصلنا لأعلى مكان في حائل يطل عليها من شاهق، فوجدنا مكاناً قرب السحاب واسعاً وممهداً ثم في أعلاه يوجد مكان ربما سيكون مطعماً شاهقاً يستطيع من يجلس فيه وفي هذا المكان الممهد المرتفع أن يرى المدينة مترامية في الأسفل من حوله.
اندهشنا بهذا المكان الرائع الذي وجدنا فيه صاحب المشروع/ المنتجع في انتظارنا بالأعلى، وقام بتقديم شرح واف عن المنتجع السياحي، واختياره لهذا المكان الحاتمي وتسميته للمنتجع باسم: «منتجع موقدة حاتم الطائي».
في البعيد ظهرت لنا موقدة حاتم الطائي على جبل مرتفع مواز في علوه للجبل الذي نقف عليه، ثم غطاها السحاب العابر الذي عبر بنا أيضاً. كان الطقس أعلى الجبل مائلاً للبرودة، كان طقسًا أوروبياً. برد خفيف ومطر خفيف أيضاً، ومدينة حائل تترامى حولنا وتجري السيول التي تسيل من مرتفعاتها في شوارعها.
بعد أن انقشعت السحابة العابرة توقف المطر، وسطعت الشمس الخفيفة من جديد، وبدأنا في التقاط الصور من أعلى للمدينة: جبل حاتم وموقدته، وللمنتجع، ومشاهد حائل البعيدة ومبانيها.
قمت بإجراء حوار صحفي مع صاحب المنتجع: «عبدالوهاب الفايز» الذي ذكر لنا أنه يرحب بنا في أي وقت نزور فيه حائل، وتحدث الفايز عن أن هذا المنتجع تم الاستثمار فيه بمبلغ (300) مليون ريال، وقد أُنشئ المنتجع تكريمًا لحاتم الطائي أكرم العرب ولابنته وابنه عدي بن حاتم اللذين دخلا الإسلام.
وتحدث معي عن تفاصيل المشروع وفكرته واختياره لأشهر وأعلى مكان في حائل، ودعم صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود للمشروع، كما ذكر أن المرحلة الأولى من المشروع سوف تُفتتح قريباً، ثم تليها مرحلتان.
وقال: إن المشروع سيضم فندقا، ومدينة ألعاب، ومكاناً بعيداً وراء المنتجع لسباقات سيارات الشباب، كما أنه سيضم عدداً كبيراً من المخيمات للعائلات.
تحدثتُ معه عن نصيب حاتم الطائي في المنتجع وضرورة أن تُكتب بعض أشعاره على بعض جدران المنتجع، وأن يكون هناك عرض مرئي لسيرته وقصائده، وأن يتم إنشاء مسرح لعرض مسرحيات عنه وعن غيره من الشعراء.
بعد أن انتهت زيارتنا للمنتجع، وأشبعنا رغبتنا في التصوير، والتقاط الصور التذكارية مع صاحب المنتجع، نزلنا جميعاً.
بصعوبة شديدة عبرنا إلحاح صاحب المنتجع على أن نتناول معه طعام «الغداء» ثم مضينا إلى مدينة «فيد» التاريخية، على بعد 80كم من حائل، وقد عادت الأمطار للهطول مرة أخرى، وفي طريقنا إليها بحثنا عن مكان يسمى: «عين عنترة».. حيث سُميت عين الماء التي لا تزال تضخ المياه بهذا الاسم لوجود قبر عنترة في تلة مرتفعة خلفها، وبعد أسئلة كثيرة لقاطني المنطقة توصلنا للعين في مكان مرتفع تحيطه المرتفعات والأشجار من جوانب عدة، ثم قمنا بتصوير عين عنترة، وبعد ذلك وقفنا على قبره، وكان عبارة عن مجموعة من الحجارة المرصوصة وهي التي تبين أن هذا قبر. لا توجد لوحة ولا ضريح ولا علامة ولا شاهد يشير إلى عنترة العبسي «أبو الفوارس»، أو الفارس العربي الأول الذي اخترعنا من اسمه مصطلح: «العنتريات»،مجرد حجارة مرصوصة ربما لا تميز تماماً بين قبر فلان من فلان.
على أية حال مضينا إلى قرية «فيد» التاريخية، وشاهدنا حصن فيد التاريخي المبني قبل 1700 سنة، وقمنا بالتقاط صور له، ومن قبله زرنا متحف «فيد» التاريخي الصغير وقمنا بتصويره. كان العاملون بالمتحف هم من ساعدونا في زيارة حصن فيد التاريخي، رغم أن الأرض كانت طينية بسبب هطول الأمطار، حيث فتحوا لنا بوابة الحصن الشبكية السلكية بعد أن عرفوا أننا قادمون من الرياض في مهمة بحثية.
بعد أن زرنا مدينة «فيد» وحصنها، توجهنا إلى مدينة «الجواء» لمشاهدة منازل عنترة العبسي ومرابع عبلة العبسية، وقراءة هذه الذكريات الرومانسية البطولية التاريخية، واستدعاء إحدى أشهر قصص الحب في تاريخنا الشعري المديد.
- بقلم : عبدالله السمطي