هناك رجال اختصهم الله بخصال تجعلهم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء يستظل بها الناس، وينعمون بثمارها، ويستمتعون برائحتها الطيبة، ويهتدون بقامتها العالية المحلقة كالنجم في فضاء الحياة، ويبقى خيرها ونفعها حتى بعد رحيلها موصولاً بها، هذا الصنف من الرجال قامات قل أن يجود الزمان بمثلها في دأبها وإخلاصها وتحديها للصعاب، فهي لا تعرف مستحيلاً ولا خياراً إلا أن تسلك للمجد كل سبيل مهما كلفها.
هؤلاء الرجال اختارهم القدر ليعبدوا الطرقات للآتين بعدهم، كثيرون منهم لا نشعر بحجم عطائهم ولا بفضل ريادتهم إلا بعد رحيلهم عنا، فنشعر أن طوداً عظيماً قد غاب عنا واحد من هؤلاء البنائين الكبار العم عبدالله بن عبدالمحسن التويجري رحمه الله، عميد أسرة التويجري، صاحب التاريخ الطويل في الكفاح والعطاء، هذا الرجل المحب لدينه والمعتز بوطنه، المهموم دائماً بقضايا أمته فهو يعي حق اليقين قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، فكان هاجسه الدائم تلك القواسم التي ضربت الأمة لتشرذم أبنائها وانشغالهم بسفاسف الأمور عن جليلها وعظيمها فتداعى عليهم أعداؤهم.
كان - رحمه الله - مثقفاً أصيلاً وصاحب رأي جريء، مختلفاً في ذلك عن كثيرين من أقرانه، حريصاً على القراءة والاطلاع والمتابعة، وصاحب خبرة طويلة في اختياراته الأدبية والشعرية، يطرب للفريد من الشعر، مثلما تهزّه الأفكار الجريئة المجدِّدة.
كما عُرِف - رحمه الله - بالكفّ عن الناس وأعراضهم، وآثر العُزلة في السنواتِ الأخيرة من حياته مجالساً الكتب، ومستغرقاً في التأملات الروحية، دائم التحدث عن الإيمان وأثره في الحياة وكيف أن الحياة الدنيوية شغلت القلوب، وأبعدتها عن واحاتِ الطُمأنينة التي يُنبِتُها غيثُ التعلّقِ باللهِ وذكرِه، وكم كان - رحمه الله - وتغمده بواسع رحمته وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين لديه شوق كبير للقاء ربه.
والحقيقة أن الأقلام تعجز أن تفي الراحل حقه - رحمه الله -، فلقد كان لا يحب التحدث عن نفسه ولا الظهور في وسائل الإعلام لكن حقه علينا وحق الأجيال أن يعرفوا قدر الرجل وسيرته الزاخرة بالنجاحات وبالعطاء والخير والمساهمات الخيرية والإنسانية، وبالحب لعائلته ولأبناء وطنه.. لقد رحل -رحمة الله عليه- تاركاً وراءه مسيرة من الأعمال التي تشهد بنجاحه ونبوغه وتميزه في مختلف مجالات الحياة فهو - رحمه الله - بمثابة كوكب ولد في سماء بلدة حوطة سدير عام 1342 هـ.
حيث عاش مع والدته برفقة أخيه الشقيق عبد العزيز، وحرصت والدته على أن تلحقه منذ صغره بأحد الكتاتيب ليحفظ بعض أجزاء القرآن وينال العلم على يد العلماء والمشايخ، وكان إمام المسجد يولي الأخوين الصغيرين اهتماما خاصاً.
ثم انتقل بعد ذلك برفقة أخيه ليعيشا في كنف أخيهما الأكبر الوالد حمد والذي كان آنذاك قد عين مديراً لبيت مال المجمعة وعموم سدير خلفاً لوالده الشيخ عبدالمحسن - رحمه الله -، حيث تولى تربيتهما بعدما توفي والدهما. ولقد أحاط الوالد حمد التويجرى أخويه الصغيرين برعايته وحبه أملاً في تعويضهما عن فقدهما والدهما، وحرص على تربيتهما وتعليمهما حيث أرسلهما إلى علماء المجمعة لتلقي العلم، وبعد أن صدرت أوامر الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - انتقل الوالد حمد للعمل رئيساً لبيت المال في القصيم وتم تعيين العم عبد العزيز- رحمه الله - في بيت مال المجمعة والزلفى والسدير خلفاً لأخيه الوالد حمد، وهنا ذهب الشاب عبدالله إلى القصيم مع أخيه الوالد حمد في عام 1357هـ. وكان عمره آنذاك 15 عاماً والتحق بمدرسة الفيصلية وتفوق وكان من الأوائل مع استمرار تلقيه العلم على يد علماء بريدة.
وفي عام 1361هـ بعدما أشتد عود عبدالله وأصبح شاباً يعتمد عليه سارع إلى الالتحاق بالعمل مع أخيه الوالد حمد - رحمهما الله - في بيت مال بريدة، وفي نفس العام زوجه أخوه الوالد حمد، وظل عبد الله معه يتعلم منه ويتخرج من مدرسته جامعة العطاء والإنجاز والنجاح ليسجلوا أسماءهم بأحرف من نور في تاريخ الوطن الحديث الذي شهد جهوداً مخلصة ووفاءً نادراً من هؤلاء الكبار لوطنهم.
كان العم عبدالله -رحمه الله - هو الابن الرابع للشيخ عبد المحسن بعد إخوانه محمد وحمد وعبدالعزيز وجميعهم اقتفوا الأثر وساروا على درب الخير والعطاء.
ثم قرر الشاب عبدالله السفر لجدة للبحث عن عمل وبعد عودته توفيت زوجته فما كان منه إلا الرحيل إلى جدة فعمل هناك في الديوان الملكي الذي كان تابعاً للخارجية، حيث كان مسئولاً في عهد الملك سعود والملك فيصل - رحمهما الله - وكان موضع ثقة ولاة الأمر وعرف بشدة انتمائه وحبه لوطنه. وبعد زمن تزوج من المجمعة من عائلة المبارك، وندب في عام 1382هـ إلى الحرس الوطني مديراً عاماً لمكتب رئيس الحرس الوطني لمدة عام، وبعد ذلك عاد إلى الديون الملكي.
بعدها قرر الاستقرار في الرياض وتفرغ للعمل الخاص في التجارة وكان ذلك في بداية الثمانينيات فعمل على تأسيس شركة أسمنت اليمامة، كما كان أول من أدخل الدواجن إلى المملكة عن طريق الطائرات عام 1386هـ.
أصبح الراحل رجل أعمال له صيته الكبير، وصاحب تأثير وإضافة في الاقتصاد الوطني، بعدما ترك العمل الحكومي وتفرغ تماماً للتجارة وكان ذلك في عام 1396هـ وحقق نجاحاً كبيراً ولاقت تجارته رواجاً واسعاً، وهو بالفعل من رجال الأعمال الشرفاء الذين أثروا في الاقتصاد الوطني بخطواته العملاقة وأفكاره المبتكرة.
فبعد عام 1400هـ توسع نشاطه وفتح وكالة سيارات ودخل بقوة إلى القطاع العقاري والمقاولات فقام بعمل مشروعات كبيرة في المملكة، ثم توسعت تجارته خارجياً وعربياً وعالمياً. ثم تنوع نشاطه فأنشأ مؤسسة متخصصة في المواد الغذائية باسم ابنه الأكبر عبد المحسن - رحمه الله-.
كانت مسيرته الناجحة - رحمه الله - في قطاع الأعمال والتجارة امتداداً لمسيرته الناجحة في وظائف الدولة، حيث كان صاحب سجل حافل بالأعمال والمشاريع الناجحة والأفكار الجديدة التي أسهم من خلالها في فتح آفاق جديدة أمام قطاع الأعمال في المملكة. ليحفر اسمه في سجل التاريخ كرجل أعمال ناجح في وقت لم تكن آفاق التجارة والاستثمار مفتوحة وواضحة المعالم لكن فكره الاقتصادي جعله يجتاز عقبات ذاك الزمان ويحطم مستحيلاته ويصل إلى مبتغاة، لقد نجح في إثبات ذاته وتحقيق النجاحات تلو النجاحات. وقد شجعت تجربته الناجحة الكثيرين على خوض تجربة العمل في قطاع الأعمال، بعدما مهد الراحل - رحمه الله - الطريق فأسهم بقوة في انفتاح السوق السعودية على الأسواق الخارجية ما كان له عظيم الأثر في جعل المملكة أحد أهم المراكز التجارية في الخليج والوطن العربي.
ويشهد القاصي والداني وكل من تعامل مع الشيخ عبد الله - رحمه الله - على حسن خلقه ومحبته للناس، وكذلك حبه للخير ومساعدة الآخرين، فله -رحمه الله - دور بارز ومساهمات كبيرة في الأعمال الخيرية ومن أهمها مبنى للمعاقين في المجمعة بمشاركة شقيقه الأكبر العم عبدالعزيز بتكلفة بلغت أكثر من 30 مليون ريال، وصار من معالم المجمعة، كذلك قاما بإنشاء عدة مدارس على نفقتهما،ومنها مجمع عبدالعزيز وعبدالله التويجري وكان له دور كبير في دعم التعليم في المنطقة، كما كان له مساهمات كبيرة في دعم محافظة المجمعة ودعم الأندية الرياضية والثقافية والاجتماعية. كما شارك في بناء سد محافظة المجمعة والعديد من مشاريع التنمية والأعمال الخيرية والإنسانية يطول الحديث عنها وعن ذكرها.
ولا ينس أن جامعة المجمعة كانت قد أنشأت إدارة للكراسي البحثية ووضعت لائحة للكراسي وأقرت لها دليلاً تعريفياً ليسترشد به الأطراف ذووا العلاقة من باحثين ومانحين، ومن هنا خصصت كرسي الشيخ عبدالله عبد المحسن التويجري - رحمه الله- للأبحاث التطبيقية لحالات الجلطة الدماغية وكان باكورة كراسي الأبحاث بالجامعة. وأصدر الكرسي خلال عام من إطلاقه ثلاثة كتب متخصصة في الجلطات الدماغية وأربعة أبحاث نشرت في مجلات عالمية، كما تم توقيع عقود بعض الأبحاث العلمية للكرسي للحد من حالات الجلطة الدماغية وقبل ذلك توعية المجتمع بطرق الوقاية، وكذلك وسائل المعالجة الأولية للحالات المرضية.من أوجه الخير العميم للشيخ عبد الله - رحمه الله - أيضاً دوره الأساس في تأسيس صندوق التويجري الخيري فهو يعد أحد أهم الداعمين الكبار له، وأحد أهم روافده فالعم -رحمه الله - ورث عن أبيه وأخيه الكبير الوالد حمد - رحمهما الله - جميعا الحرص على تفقد أحوال عائلته الكبيرة والنظر لما تحتاج إليه.
كما حفلت حياته - رحمه الله - بصداقات كثيرة وعلاقات وثيقة مع رجالات الدولة والأدباء والمفكرين على مستوى العالم العربي والإسلامي. لقد أمضى العم عبد الله - رحمه الله - رحلة حياته المباركة متحلياً صفات نادرة بأنبل القيم وأقوم المبادئ، متسلحاً بعلم اكتسبه خلال تجاربه، وكانت حياته بحق عملاً متواصلاً، وسلسلة من النجاحات والإنجازات.. وتحولت في أواخر أيامه إلى رحلة عبادة متواصلة فمعظم وقته قبل الرحيل كان يمضيه في العبادة والطاعة وقراءة القرآن الكريم وتدبر السنة والأحاديث النبوية، تقرباً للمولى عز وجل.
رحم الله العم الغالي وأسكنه فسيح جناته وتعازينا القلبية لأبناء وبنات العم وكافة أسرتي.
- خالد بن عبدالمحسن بن حمد التويجري