إنّ أحسن ما فُسّر به التّطوُع أنّه التّوسّع في فعل الخير من تكاتف وتكافل وصلة وإسداء معروف ومبالغة في الإحسان وتنمية الإنسان والمكان؛ بل لقد أشكل على العلماء المتخصصين الفرق بين التّطوع وفروض الكفايات، وبين التّطوُع وأعمال البرّ، وبين التطوع وتنمية المجتمعات، وبين التّطوع وبين التّكاتف والتّكافل..
وأهل اللسان وجدوا الحرجَ نفسَه للتفريق بين هذه الأوامر الرّبانية والكمالات الإنسانية؛ فتجدهم يبالغون في التّفريق فيسمونَ البرَّ سعة النّفع للناس فهم عيال الله.
والتّطوُعُ هو البرُّ؛ وليس البرَّ أن نولّي وجوهَنا قبَلَ المشرق والمغرب بل هو إيمانٌ بربّ رحيم ويوم آخر نجازى فيه ونحاسب، وإيمانٌ بالملائكة الأطهار والنّبيين الأخيار والكتب المنزّلة ثم هو اسم للخير ولكل فعل طَوْعي مُرضي.
التّطوعُ -أيها السّادة القرّاء- سبيل الزيادة في العمر، وسببٌ لسعادة المرء في الدّارين، وحريٌ لمحبة النّاس، ومجلبةٌ للأُلفة لأنه يوصلُ إلى القلوب ألطافا ويُثنيها محبةً وانعطافا، وهو طريقٌ واضحٌ لراحة البال واستقرار النفس وطُمأنينة القلب، وهو حارسُ النّعَم، ومن تلقّى أوائل النعم بالشكر ثم أمضاها في سبيل الخير والبر والتّنمية فقد حرسَها من الزوال وحصّنَها من الانتقال..
إنّ إقامة الواجبات الكفائيّة أحد مقاصد الشريعة الإسلامية فيما يخصّ أمتنا المسلمة من التّعاون والتّضامن والتّكافل في كل المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية؛ فالمؤمنُ للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُه بعضا..
ورغم أنّ عموم المسلمين مأمورون بهذا المقصد العظيم بالأمر العام من البرّ والتّطوع والتنمية؛ فنحن في مملكة تضمّ الحرمين الشّريفين ومحمية ربّ العالمين مأمورون بهذا التّعاون والتكاتف والتكافل بصورة أخص على اعتبار أن إنسانَ المملكة الصّالح جزءٌ من الهدى الذي للكعبة.
إنّ مظاهرَ ائتلاف القلوب والمشاعر في مملكتنا الغالية.. واتّحادَ الغايات والمناهج من أوضح تعاليم الإسلام وألزم خلال المواطنين؛ بلهَ والمقيمين؛ بل ومن أدعى الأمور للتّعاون والتكاتف والتّكافل.
والتأريخ يشهد أنّ للتنمية والتّضامن والتّكافل كمالاً في طبيعة أهل الجزيرة العربية تجعلهم يّرقَونَ آلامَ الخلق ويسعون لإزالتها، ويأسَونَ لأخطاء النّاس ويتمنونَ لهم الهدى؛ فعاطفتُهم حيّةٌ نابضةٌ بالحب والرأفة، ولعلهم استمدّوها من صفة المولى تباركت أسماؤه فإنّ رحمته شملت الوجود وعمّت الملكوت، وأشرقَ شُعاعُها على أمّ نبيه وابن خليله إسماعيل عليه السلام هاجر -رضي الله عنها- حينما قالت: لا يضيّعنا أبداً.. فأورثتها لبنيها من عرب الجزيرة.
أيها المباركون:
لا أدري -شخصياً- متى تنازلَ الشّابُّ السّعودي عن دوره في تنمية ذاته وخدمة مجتمعه؛ فقد قرأتُ - كما قرأتم سيرة أبي الأنبياء وابنه وزوجه هاجر عليهم السلام في البناء والتّطهير والخدمة الشريفة؛ بل وسيرة أحفاد إسماعيل عليه السلام منذ الدّور الجُرهمي والدّور الخزاعي والدّور القرشي في السّدانة والسّقاية والرّفادة والنّدوة والقيادة والإشناق والقُبّة والأغْتَة واللواء والمشورة والسّفارة والحُكومة والعمارة وغيرها.
وهكذا كان أهل الجزيرة ولا يزالون...
نعم؛ هكذا كانوا، فمجالات فروض الكفاية والأعمال الطّوعية تشمل الحياةَ كلَّها؛ وإن كان أكثرُها غائباً اليوم.
يجب على القائمين على هذا المُلتقى التّطوعي الأول أن يلفتوا النظر إلى فروض غائبة عن الأمة وعن الوطن لانشغال أفراده بفروض العين، أو بذواتهم فقط، وفاءً بواجب الأمة جمعاء تجاهها.
نعم، هناك فروضٌ غائبةٌ كثيرة، نحن في ذهول -غير مُتعمّد- عنها تشمل مجالات حياتية بالغة الأهمية، كالعلم والصناعة والتّقانة والتجارة، وبحضورها يتحقّقُ العدل بين الناس، فهي صمّام أمان وساحة أمن، وبها نحقّقُ الرفعة والازدهار للأمة كلها؛ بدءاً من قضاء حاجات المحتاجين ورفع كربات المكروبين باعتبار هذا المجال مقدمٌ على الفروض العينية، وانتهاءً ببناء المشافي والمصانع وبناء المدارس والجامعات وتشغيلها.
أيها الجيل الفَطن المُبادر بفروض الكفايات وأعمال البرّ:
ها هو البابُ يُشرَعُ لكم من جديد؛ فقد اختاركم الله لتعيشُوا لغيركم.. وإنّ لنفوسكُم العظيمة مجالاً أرحبَ مدىً... وأطولَ امتداداً. تُشرفُ فيه على الحياة.. ولها فكرٌ أوعى.. وشعورٌ أقوى. فهي كالطير الذي أَلفَ الذُّرا لا ينحطُّ دونَها إلاّ لماما. وإذا هبطَ فما يبقى إلاّ ريثمَا يرفرفُ بجناحيه صُعُداً إلى حيث يعيش، وكأنّني بكُم تُعيدون كتابةَ التأريخ، وتُسَطْروا حقبةً حضاريةً جديدةً بماء الذّهب، وترفعوا راية التّطوع والبرّ من جديد.. بوركتُم وبوركَ مسعاكُم.
- فلسفة تربية - مكة المكرّمة