قطعنا مسافات طويلة، وأودية وشعابا، وطرقا بركانية وصخرية وعرة جدا، صعودا وهبوطا، يمينا ويسارا، مررنا بجبال وحرّات، حتى وصلنا إلى حرة بني رشيد (حرة النار) حيث كان في استقبالنا بعض رجالات قبيلة الرشايدة، وكان دليلنا في ذلك (أبو مصلح) وهو بدوي من القبيلة يسكن في بيت حجري بناه في العام 1422هـ، قام بضيافتنا وتقديم القهوة والشاي وحليب الماعز والتمر وطعام مصنوع من الدقيق والسمن والحليب. تذوقت بعض الأطعمة وتركت حليب الماعز بالعسل.
قمت بتصوير البيت وحجراته التي أخذنا إليها أبو مصلح وتصوير صخرة مكتوب عليها الشهادة: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» كان قد عثر عليها أبو مصلح خلال تنقلاته الصحراوية.
ثم قادنا أبو مصلح إلى حيث اجتماع بعض رجالات الرشايدة، وكعادة الكرم العربي الطبيعي تناولنا طعام الغداء (لحم تيس مع أرز) وشربنا القهوة العربية والشاي وتناولنا بعض الفواكه: برتقال وموز وتفاح.
ثم انصرفنا جميعا إلى حيث موقع سباق: «داحس والغبراء» بعد أن قطعنا أكثر من 15 كم وسط أدغال الحجارة والصخور والمرتفعات والتلال والهضاب الوعرة، في منطقة غنية بالآثار القديمة التي يعود بعضها إلى 16 ألف سنة، كما أخبرني كل من د. عيد اليحيى، ود. عبدالله الرشيدي رئيس رابطة قبائل (عبس) العالمية الذي كان أحد مستقبلينا.
بعد جهد وعناء وصلنا إلى حيث موقع السباق التاريخي الشهير بين فرسي داحس والغبراء، كان عبارة عن ميدان منبسط فسيح عرضه في حدود 300 مترا وطوله أكثر من 8 كم.. مضمار سباق من الطراز الأول، لا تعرجات فيه ولا التواءات ولا صخور، بل أرض رملية متماسكة ومنبسطة ومستوية، قمت بتصويرها وحين وصل الفَرَسان لتصوير مشهد السباق، وعليهما فارسان.. حاولا الانطلاق بالفرسين لكنهما لم يصل إلى درجة الركض، إذ تأبّى أحد الفرسين أن يسير وأن يركض ووقف وأخذ يرفس بساقيه الخلفيتين.
أخذ الفارسان وقتا لترويض الفرسين ذهابًا وإيابًا، ولكن لم يستطيعا أن يصلا بهما لدرجة الركض السريع، ويبدو أن الفرسين كانا مرهقين، أو لم يروّضا بشكل كافٍ.
على أية حال.. تم تصوير بعض اللقطات حين قام الفارسان بالعدو قليلا في مضمار السباق، وإعادة تذكر مشهد سباق داحس والغبراء.
بعد أن تم الانتهاء من تمثيل المشهد وتصويره عدنا جميعا تارة أخرى لمكان حجري صخري في حرة بني رشيد (أو بني عبس قديما) وسط عدة جبال صغيرة، الأرض مملوءة بالصخور الصغيرة السوداء، ولكن توجد بين كل مساحة وأخرى أعشاب نابتة من الرمث والقيصوم والشيح أحيانا، وكانت توجد مجموعة من الإبل التي ترعى وهي إبل خاصة بأبي راشد (مفضي الرشيدي) الذي قام باستقبالنا حين وصلنا إلى مكانه بصعوبة إذ كدنا نضل الطريق وسط هذه الصخور المترامية على الأرض.
كنت قد ركبت السيارة الجيب مع الدكتور عبدالله الرشيدي رئيس رابطة قبائل بني عبس العالمية، وقصّ لي أسباب إنشاء الرابطة وأهدافها وتأسيسها بتاريخ 29/12/2009م بمدينة (كسلا) شرق السودان، وقد أجريت معه حوارًا صحفيًّا حول هذه الرابطة لإعداده للنشر لاحقا.. بعد أن استروحنا من عناء الطريق ومتاعبه.
وصلنا إلى جلسة (أبي راشد) الذي كان قد أعد المكان بسجادة كبيرة حمراء مبسوطة، وأعد الفواكه التي أسميها: بـ(الثلاثي المرح): الموز، والبرتقال، والتفاح، وأوقد النار حيث إعداد الشاي والقهوة العربية والعشاء: اللحم والأرز.
كان المكان وسط الصخور السوداء وبعض المرتفعات الصغيرة وكان الحضور مجموعة صغيرة من الشباب، بالإضافة إلى أبي مصلح وابنه، والدكتور عبدالله الرشيدي، ورفيق أبي راشد في رحلة الرعي التي يقوم بها معهم راع أسمر من إفريقيا أو من السودان غالبا، بالإضافة إلى مجموعتنا.
بعد أن سلمنا وجلسنا، وشربنا القهوة والشاي، أخرج الدكتور عبدالله الرشيدي اللاب توب الخاص به من حقيبته، وعرض فيلما يوثق لحفل قبائل العرب الذي شاركت فيه (14) قبيلة عربية ونظمه بنو رشيد من سلالة قبيلة (عبس).. وكانت كل قبيلة تتقدم بأغنية شعبية ورقصة شعبية، ثم خطبة لشيخ القبيلة. كان حفلا كبيرا مبهجا حافلا بأنواع الرقصات الشعبية التي تميز قبيلة عن أخرى.
وقال لي الدكتور عبدالله الرشيدي: إن رقصة قبيلة عبس متوارثة منذ القدم، وهي رقصة بالسيوف تتميز بها قبيلة عبس، ولا تستطيع أية قبيلة أخرى أن تمارسها.
عبارة عن حركات سريعة جدا ودائرية بالسيف بين خصمين متبارزين أو مجموعة من الخصوم.
عرفت من د. عبدالله الرشيدي قدرا من المعلومات حول هجرة «الرشايدة» إلى شرق السودان سنة 1882م، وبقائهم هناك حتى اليوم ومحافظتهم على عاداتهم وتقاليدهم وسلالتهم، بحيث لم يتزوج أحد غريب إفريقي أو زنجي أو سوداني من بناتهم، ومازالوا يحتفظون بلهجتهم البدوية حتى اليوم، وأنهم قاموا بانتفاضة في العام 1989م للمطالبة بحقوقهم وإقامة حكم ذاتي أو كونفيدرالي مع ولايات سودانية أخرى، وتم لهم ما أرادوا.
كما عرفت منه أن قبائل عبس منتشرة في معظم الدول العربية حتى في مصر التي يعرفها د. عبدالله الرشيدي جيدا وزارها مرات عديدة، وحدثني عن شارع أحمد عصمت بحي عين شمس بالقاهرة، وعن زيارته لشرم الشيخ والغردقة وأسوان، وغيرها من المدن المصرية، ودعوته للقاء قادم في مصر بلا شك.
كان الطقس يزداد برودة، قمت وارتديت جلبابا وعدت للجلوس لكن البرد يزداد، فنهضت مرة أخرى وصعدت للكرافان حيث حقيبتي الملأى بالملابس، وارتديت بدلة فوق الجلباب كعادة العرب، ولففت شاشا ملونا على رأسي، لكن البرد هو هو في اشتداده، بعد أن جلست قليلا مع بعض رجالات القبيلة وبعض البدو، استأذنت منهم وصعدت للنوم بسبب شدة البرد والإرهاق.
كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء، حين بدأت في النوم، ونادى عليّ د. عيد اليحيى لتناول طعام العشاء فلم أستطع واعتذرت له وواصلت النوم.
استيقظت مبكرا جدا كالعادة، ربما في الثانية والنصف ليلا، ولم أستطع النوم مرة أخرى. قضيت الوقت حتى شروق الشمس في التأمل والتفكير في التاريخ والتراث، ودارت بي هواجس حول أماكن الشعراء، وكيف أبدعوا أشعارهم في أجواء هذه الصحارى والمراعي المترامية.
ومع رجرجة الكرافان بسبب شدة الرياح والبرد كانت الأسئلة تصعد وتهبط في ذهني، ومر بي خاطر شعري فقمت وكتبت بعض الأبيات الشعرية التي واتتني، كتبتها على أضواء النجوم والقمر الذي بدأ يقترب من الاكتمال حيث إن جانب الكرافان الأيسر كان مفتوحا على السماء، فيما الجانب الأيمن الذي تمددت بجواره كان مغلقا، وكنت طلبت إغلاقه بسبب شدة البرد.
حين أشرقت الشمس، نزلت من الكرافان وكان رفيق أبي راشد قد أوقد النار لصنع الشاي والقهوة، نزلت وجلست جواره لأتدفأ من البرد الذي مايزال يندفع بقسوة، وشربت معه الشاي والقهوة وتناولت بعض التمرات، وحكى لي عن الرعي والمكان وأنواع الإبل.
كان أبي راشد وهو بدوي يعمل برعي الإبل والغنم منذ أكثر من أربعين عاما، كان قد استيقظ وجاء للجلوس معنا، حيث أجريت معه حوارا لأنشره فيما بعد حول الرعي، والإبل، وحكايات حليب النوق، وبول الإبل، والصحراء، وأشهر المراعي وتنقله من مكان لآخر، ثم قمت بتصويره هو ورفيقه وحصلت على أرقام هواتفهم.
بدءا من التاسعة صباحا بدأ الرفاق في الاستيقاظ، وكذلك كل من ناموا ليلتهم في المكان. وكان د. عبدالله الرشيدي قد قضى ليلته معنا فيما انصرف أبو مصلح ورفاقه.
ذهبنا بعد أن شرب الجميع القهوة وتناولوا التمر لمشاهدة إبل أبي راشد ومشاهدة الوسم الذي عليها، وسم القبيلة الخاص بها، وهو متوارث عن قبيلة عبس، وكان على شكل حرف: (P).
بعد أن شاهدنا الوسم الخاص بالقبيلة وهو منقوش على الفخذ الأيمن للساق الخلفية للناقة، كما يوجد شاهد آخر منقوش على رقبة الناقة عبارة عن حرف (O) بعد أن شاهدنا الوسم، قمنا بتصوير النوق والتقاط بعض الصور التذكارية، وحذرنا د. عبدالله الرشيدي من وجود أفاع من فصيلة (الصّل) وهي سامة وقاتلة، ولا يستمر الملدوغ منها سوى أقل من دقيقة ليفارق الحياة، وهي لونها أسود لون الحجارة والصخور التي نسير عليها، كما أنها تنهض واقفة كالعصا وتطير أحيانا لتلدغ من يقترب منها. قلت: ربنا يستر، وهو الحافظ من كل شيء.
بعد أن قمنا بالتقاط الصور، ذهبنا سريعا وكنت حذرا جدا بعد هذا الحديث اللادغ الشائق، ووصلنا سياراتنا وأخذنا نستعد للرحيل إلى (خيبر) ثم (تيماء).. هذه المدينة التاريخية الأثرية التي بنيت قبل عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وكان قصدنا زيارة معالمها الأثرية وقصر السموأل: الأبلق الفرد.
- عبدالله السمطي