البقّام، والعصيفرا، والركّاض، والرجّافة، وأبو حمرة، والقُمرية، وغيرها من الطيور الصغيرة ذات الريش الملون تحط رحالها على جنبات وادي قوب الذي ينبع من قريتي الطويلة وبني سعد مرورا برغدان الزرقاء الباحة الظفير وصولا للملد من ثم ينزاح إلى المنحدرات الشرقية..
تتماهى تلك الطيور فوق الحقول باحثة عن طعامها، فيما يستحث الأطفال هممهم لصيدها بوسائلهم التقليدية التي يطلقون عليها (مرتمة أو منسبة) وهي عبارة عن صفيحة مستوية تشظت عن إحدى الصخور على شكل الصحن الصغير تُثبّت بثلاثة عيدان تلتقى فوق ريشة خشبية صغيرة مثبتة على قائم حجري صغير، وبداخل (المنسبة) طعم من الديدان أو (الدواحيس) مثبتة بخيط يُدق في التربة وتكون في موقع قريب من شجرة كي تعطي فرصة سانحة للطيور -عند هبوطها على فرعها- مشاهدة الدودة وهي تتحرك لتنقضّ عليها دون أن تدري بأن ثمة خطرا يحدق بها لتطبق عليه (المنسبة) بشكل سريع، عندها يقفز الصياد الطفل فرحا ليقبض على الطائر، وهكذا تتم عملية الصيد وقلة من أبناء القرية يمتلكون بنادق «ساكتون» حيث ينفردون بصيد فائض إلا أن الإحساس الجميل بمتعة الصيد تكون مصحوبة بالصيد التقليدي لأن الطائر يظل حيا يمكن إيداعه في صندوق خشبي صغير مع تقديم الماء والطعام من فتات الخبز وبقايا الأرز، ومن النوادر الجميلة قصة الفتى القروي الذي كان يتأهب لحظة اقتراب طائر البقّام من منسبته وكان يهمس صادت.. ما صادت.. ويكررها مع ارتفاع صوته قليلا ليصرخ بأعلى صوته صادت ليفز ثور قريب منه كان يرعى في خميلة خضراء ويقفز من شدة الفزع إلى جوف البئر، ليطلق الفتى قدميه هربا إلى أطراف القرية خوفا من عقاب سيناله، حيث إن الثور يمثل قيمة اقتصادية لا تقدر بثمن في مجتمع قروي يعتمد عليه في مساندة مالكه في حرث الأرض ودمسها وهرس سنابل القمح واستخراج الماء من باطن البئر فضلا عن بيعه أو ذبحه متى دعت الحاجة، أحد المزارعين شاهد المشهد وصاح في جماعته الذين توافدوا فرادى وزرافات بحبالهم وهممهم ليتمكنوا وبعد معاناة من حمل الثور إلى خارج البئر، السكين الحادة كانت العلاج السريع والأمثل ليتلذذ أهل القرية بلحم الثور، الفلاح لا يمكن أن يجوع فالركايب (المساطب الزراعية) ممتلئة بالخير سواء من الدجر أو أكواز الذرة المُشوّطة على النار أو الشويط أو الحماط الذي ينبت تلقائيا على ضفاف وادي قوب، في الوادي كل فلاح مشغول بعمله في مزرعته سواء بالتحصيب بإزالة الأحجار الصغيرة استعدادا لزراعتها أو تعفيتها إزالة النباتات والأحراش أو بتهذيبها بتشكيل قصاب متساوية على شكل مربعات ومستطيلات تحتفظ بالماء المجلوب من البئر عن طريق مواتير ضخ مثبتة فوق سقالة خشبية توضع في منتصف البئر، ولنزح الماء قصص مؤلمة يحتفظ بها اأهالي في ذاكرتهم لتغدوا حكايات موجعة فأحد المزارعين ما أن حاول تشغيل الماتور حتى تسرب دخان امتلأ على إثره جوف البئر بغاز سام أدى إلى اختناق الفلاح وسقوطه في عمق البئر، وهكذا كانت فواجع القرية مع هذه الآلة التي لا غنى عنها في انتزاع الماء لسقيا المزارع، ولم يعد يروق لهم استخراج الماء عن طريق «الغرب» وهي تشبه القربة وبحجم كبير تُربط بحبال تصل إلى الدراجة (عبارة عن بكرة خشبية كبيرة) تنتهى بحبل سميك مثبت في خشبة على رقبة الثورين اللذين يسيران في المجرة ذهابا وإيابا بتناغم مع حداء المزارع، وحين يصب الماء في «القف» يتسرب إلى جدول صغير ليتوزع في القصاب، وهكذا تتم سقيا الحقول، عمل شاق ومتعب، وكمية الماء قليلة جداً مقارنة بما يضخه الماتور الذي جعل الأهالي يفضلونه إلا أنهم لم يسلموا من خطره المحدق حين يصاب بعطب وينفث الدخان السام ليكون الفلاح ضحية لا محالة، وفاجعة مؤلمة لأهل القرية.
وحين يستقر الرائي فوق قمة الجبل تنتابه الدهشة، وتعتريه البهجة، حيث تمتلئ عيناه بالخضرة البهية التي تنتشر مثل القطيفة الخضراء على جنبات الوادي حقول الذرة وحب الحاج وغيرهما، ولم يبق الآن شيئا من ذلك البهاء والاخضرار، فالركايب تشكو حالها من الإهمال والنسيان وقد تهدمت جدرانها وتيبست تربتها ونبتت بها نباتات غير مفيدة، أما الطيور فلم تعد تُحلّق في أجواء الوادي إلا فيما ندر وبأعداد قليلة، إذ ليس لها حاجة في أرض جافة، والسؤال هل يعود الإنسان إلى حرفته باستصلاح تلك الركايب؟ وإعادة زراعتها ودفق ماء الحياة بها، ليس فقط من أجل الإنسان، بل من أجل الأرض ذاتها، والطيور الملونة التي تُحلّق في أجوائها مشكلة أغنية جبلية تتناغم مع خرير مياه الوادي. هل يعود ذلك الشدو الجبلي الأنيق فوق هامات جبال السراة؟
- جمعان الكرت