أجمل كتب السير الشخصية والأعلام ما يصدر وأصحابها على قيد الحياة حيث يزدهر فيها الوفاء والصدق ودقة المعلومة وشمولية النظر، ويقل الكلام المرسل والثناء المشمول بالعاطفة المفرطة بلا أدلة.. وأشهر من يفعل ذلك في ساحتنا الثقافية الأستاذ القدير محمد عبد الرزاق القشعمي الذي امتلك ناصية اللغة الوفية، والمعلومة الشاملة، والرؤية الحقيقية لزوايا المشهد دون مجاملة أو محاباة مجانية.
وأحدث أعماله المنشورة «محمد العجيان.. الصحفي.. الإنسان» استعاد فيه قيمة رمز صحافي وثقافي توارى عن الضوء فجأة وبقي في قلوب آهلة بالحب والذكريات الأنيقة حيال رمز ينتمي إلى الجيل التالي للرواد بنى نفسه بكفاح وإصرار ، وتشكلت قيمته الإعلامية مستنداً إلى معايير مهنية احترافية وإنسانية شمولية فيها الصدق والشفافية وحب الجميع، وقيم إدارية أهمها العمل بروح الفريق، ومنح الآخرين حرية العمل وتطويقهم بالرعاية ليقطفوا الصدارة دون أن ينافسهم أو ينسب إلى نفسه جهدهم؛ وهي صفات مبهرة في ساحة الأعمال الإعلامية التي يكثر فيها الصراع وتصفية الحسابات في بعض المنعطفات «الأقل مروءة».
الكتاب المختصر الأنيق فيه باقة من الشهادات النادرة لزملاء وأصدقاء أجمعوا على حب الرجل ونقاء سريرته ومهنيته العالية وتفانيه من أجل مساندة الأسماء الجديدة، وتعزيز مكانتها في ميدان العمل الصحفي الجاد والمسؤول، وفيه أيضاً إثبات للأدوار والمناصب التي أثبت فيها جدارته في صناعة صحافة تبحث فيما وراء الخبر، وتتبنى قضايا الناس وهمومهم سواء في صحيفة «الرياض»، أو «اليوم» أو «اليمامة» وصولاً إلى عمله الخاص في تأسي صحيفة «العصر» من قبرص.. لكنه يترك الميدان فجأة ويلوذ بالصمت والمراقبة من بعيد دون إثارة ضجيج، أو افتعال حكايات فقد عاش حياته المهنية صانعاً حقيقياً للمشهد وقائداً نبيلاً .
لم يصل الأستاذ العجيان إلى المهنة فجأة، كما وصل البعض، بل تشكلت في فكره ودمه وعقله منذ سنوات الدراسة الأولى فقد أصدر صحيفة حائطية باسم «الحياة» تكتب بخط اليد في المرحلة الابتدائية، وفي المعهد العلمي حرر صحيفة حائطية باسم «الثقافة» ونشر مقالاته الأولى في صحيفة «البلاد» ومجلة «قريش»، وهو كما يؤكد صديقه ورفيق دربه أستاذنا عبدالله الماجد: «ولد صحفياً موهوباً، علّم نفسه وأجاد تعليم نفسه، ثم علم آخرين في المهنة. كان امتيازه هو ذكاؤه المفرط الذي لا يشعر به من يعيش بقربه أو يعمل معه، لكن هذا الذكاء يظهر بدون إدعاء، في كل عمل يعمله أو يوجه بعمله. علّم كثيرين أساليب المهنة دون إدعاء. ومعظم الذين ارتقوا إلى مراكز قيادية كانوا من تلاميذه أو ممن دفع بهم إلى الصدارة».
وهو أديب منح الصحافة وهجها الثقافي الجميل، ومواقفه مع المثقفين والأدباء تبرهن على حفاوته بالمعرفة والإبداع ومنذ سنواته الأولى تعلق بشعر بدر شاكر السياب وكان شغوفاً باقتناء كتب الإبداع والبحث عنها.
ومن مواقفه الجميلة في صحيفة الرياض مساندته للأستاذ عبدالله الماجد حين فكّر في تحويل صفحة الأدب إلى ملحق أسبوعي رغم الظروف الصعبة طباعياً ومالياً فمنحه الثقة والفرصة و»كان يقرأ الملحق بعد الطباعة مع القراء» لأنه يؤمن بكفاءة من حوله، ولا يفرض وصاية أو رقابة تحدّ من إبداع زملائه الذين شكلوا فريق عمل متجانس.
وفي صحيفة اليوم تحمس كما يروي الشاعر علي الدميني لإصدار مجلة أدبية بعنون «أصوات» فحول الفكرة إلى مشروع عمل، لكن ظروفاً إدارية مفاجئة حالت دون ذلك لكنه استمر مسانداً ومحتفياً بملحق «المربد» الشهير، وعندما أسس صحيفة العصر اهتم بالصفحات الثقافية التي حررها بول شاوول، وكتب فيها عدد من المثقفين العرب سعيد عقل.
سيبقى الأستاذ العجيان قامة إعلامية واسماً جديراً بالاحتفاء والوفاء من رفاق دربه وقرائه وتلاميذه عن بعد وعن قرب، وعلى أقسام الإعلام أن توثق صلة أبنائها بصناع الصحافة السعودية في كل المراحل لينشأ جيل يعترف بقيمة «الأعلام»، ويثق في معطياتهم، ويتأملها عبر قراءات ودراسات علمية جادة.
- محمد المنقري