أنا يا صديقي أسير على حافة الليل
يعرفني العتم أكثر مما تعرفني مصابيح أمي
ويعرفني الموت أكثر مما تظن الحياة.
تيسير سبول
يبدو هذه الأيام أن السيد الموت أصبح أكثر جرأة وأقل تقديراً للأرواح، بل وأصبح لديه سوء تقدير في الأولويات متخلياً عن طريقته القديمة التي كنا نألفها منه, ويبدو أنه حتى هو أيضا يساير سنة التطور ويواكب التغيرات ولكن بطريقته الموجعة.
لم يكن السيد الموت في السابق بكل هذه القسوة والفظاظة مع ضحاياه الموكل بنقل أرواحهم للعالم الآخر.
كان يسبقه الهرم أو الأمراض التي لا شفاء منها كنذير وللمحظوظين جدا تأتي بعض البشارات ليُحسنوا الختام، ثم يأتي هو كحتمية نهائية ونتقبله بتسليم ورضا كاملين، وبالطبع نحزن كثيرا نبكي كثيرا غير أننا ندرك أن هذا جزء من قانون الكون العظيم الذي خلقه الله وأودع فيه نواميسه والناس تولد وتحيا وتكبر ثم تموت.
السيد الموت الآن أصبح يترصدنا عبر فناجين القهوة .. ونحن نقطع الطرقات أو حتى ونحن نائمون، والمرضى غالبا يتشافون والكبار يكبرون أكثر وأكثر بل ان السيئين يهرمون لكن الطيبين يموتون سريعا، والشباب يختطفهم الموت والكبار يبقون ليسكنهم الفقد والفجيعة ولم يعد خبرا مفجعا أن يقال الشاب فلان مات .. أو الرجل الطيب فلان رحل.
لا لم يكن السيد الموت هكذا أبداً، وأتذكر مثلا انه عندما توفيت أمي مرضت قليلا .. تعافت ثم عادت لتمرض وبقينا نراوح بين اليأس والأمل وأخيرا حزم السيد الموت أمره وترصدها في ساعة الغسق.. ساعة الالتباس بين الظلمة والنور .. ساعة الخداع بين النهار والليل وكأنه لم يشأ التحديق في عيوننا نحن الصغار رغم أننا كنا مجردين من أي عون عدا الصلاة.
و ظل يتفاوض مع روحها طويلا، قدم لها حدائق كافور و ريحان..وعدها باستلال روحها دون ألم (في هذه فعل) فاوضها كثيرا وكانت تلوذ بمفردة واحدة : أطفالي.
ولأن الموت لا يخسر معاركه أبداً ثم إن لديه قائمة طويلة من العمل غير المنجز لذا كان عليه استلال روحها المتعبة سريعا في تلك الليلة ويرسلها للسموات ويمضي .
ورغم الحزن وفداحة الخسارة غير القابلة لأي عوض فقد كان موتها متوقعا وحضر المودعون من أماكن بعيدة رغم صعوبة التنقل وشيعها نساء الحي وسمعت البعض منهن يرسلن معها السلام الى السابقين من أقاربهن والبعض فقط كان يطلبها السماح والكل كان يدعو لها ويطلب لها المغفرة.
فهل يفعلها السيد الموت الآن..؟ وهل بقي شيء من رفاهية الحزن ؟
(فلان مات .. الله يرحمه).. هذا كل شيء ثم تمضي الحياة وكأن شيئا لم يكن، وكأنه لم تنطفئ حياة وعوالم وضحكات ودموع وصخب شغل كل العمر.
وما عدنا نخافك أيها السيد الموت وأنت الملوم..أنت الذي ما عدت عنا غريبا.
- عمرو العامري