«إن شعر بليك مزعج.. شأن كل شعر عظيم».
ت. س. إليوت
خُذيني يا بُنيّاتِ الطريقِ.. سئمتُ تثاؤبَ الفجّ العميقِ
عبد الله الرشيد
3 - مفاتيح شعرية:
ليس هناك شيء أكثر تحريضاً للناقد من اختلال موازين الفن والجمال لدى الجمهور، ومن الاختلال الخفي في هذه الموازين: أن يحتفي الجمهور بالشاعر المتمكن؛ لكنْ بأقلّ جوانب إبداعه تميّزاً، ظلّ محمود درويش يردد لسنوات طويلة أنه تجاوز فنياً قصيدة: سجّلْ أنا عربي.. وظلّ الجمهور لا يتذكر له سواها! وهذه المفارقة تتكرر مع شعر عبد الله الرشيد، فاحتفاء الشاعر وجمهوره بشعر الحكمة المباشرة و»بيت القصيد» ما يزال يستنزف جزءاً مهماً من الطاقة الإبداعية المتوثِّبة عند الشاعر حتى في ديوانه الأخير؛ كقوله مثلاً:
كم خارجٍ من ظلام السجن مكتئبٍ
يظلُّ يرهب في جنبيه سجّانا
وقوله:
إنّ الغُبار مَهينٌ وهْو مرتفعٌ
والصخر يبقى مهيباً وهو ينحدِرُ
وقوله:
أنا البقاءُ تحدّى للفناء يداً
ما كان للبحر أن يخشى من الغرقِ
وكنتُ في دراسة سابقة قد أشرتُ إلى ظاهرة: الكتابة بماء الذهب عند عبد الله الرشيد، وبسطتُ القول في أسبابها، وأُضيف هنا أن هذه الظاهرة تتبدّى غالباً عند الشاعر في نهايات قصائده، فهل أكشف الآن سراً إذا قلتُ: إن خواتيم القصائد عند عبد الله الرشيد لا تضارع مطلقاً بداياتها وأوساطها؟.. ربما لأن الشاعر أفاق حينها من انصهاره اللغوي في أُتون الشعر، واستيقظ حرصه الواعي على البيت الشارد والحكمة السائرة!
إذا استبعدنا إذن هذه الأبيات الشوارد من المعادلة النقدية؛ فما الذي يميّز شعر عبد الله الرشيد في العمق؟.. سبق أن أشرتُ إلى سمة: الأناقة اللغوية في صياغته الشعرية، وكذلك إلى تميّزه اللافت في وصف التجربة الشعرية «حديث الشعر عن الشعر»؛ غير أن هناك ظواهر أسلوبية أخرى قد تكون «غير مرئية» عند كثير من المتلقين؛ ولكنّ أثرها الإبداعي كبير في تحريض الاستجابة الجمالية لديهم، ومن هذه الظواهر: تقنية: التوقف المفاجئ والالتفات المباغت؛ مع الاستعانة بفجوة الصمت الحائر المحيِّر؛ تأمّلْ مثلاً قوله:
وكأنّ ال... ليتني ما قلتُها
يا حروفي أيّ جدوى لـ (كأنْ)؟
وقوله:
كأنها.. لستُ أدري ما أُشبِّهها
لأنها.. غاض ينبوعُ استعاراتي
وأجمل شواهد هذه التقنية تتمثّل في: جُمَله الاعتراضية التي تجعل تيار الوعي عند المتلقي يتوقف فجأة في الفراغ.. وكأن الأرض سُحِبتْ من تحت أقدامه؛ منذوراً للسقوط في هُوّة المعنى المفاجئ السحيق، ومن ذلك قوله في قصيدته الجليلة: معازف الرحيل:
ولقد كففتُ مدامعي وأنا بها
شرِقٌ تُطِلُّ من الحِداق وتختبي
وظننتُها -والظنُّ ولاّد المنى-
ستغيضُ إثر الموسم المتذبذبِ
ومن هذه الظواهر الأسلوبية أيضاً: شيوع صيغتي: فاعَلَ، وتفاعَلَ الدالّتين على المشاركة والامتزاج بقدْر لافت في مفرداته الشعرية؛ مثل: يُساقي، مخالطتي، المماطِل، يتهافتون، تواطؤوا، فتفازعوا، سامرتُ، تناسلت، تراحم، المخاتِل، مُلاسنة، مغالَبة، أُفاكِه، عافسَ، تداعتْ، يتدابر، نُمالئ.. نعم، قد تدلّ هذه الظاهرة على شيء من الصخَب الإيقاعي في شعر الشاعر؛ لكنها تكشف أيضاً عن بنية: الصراع التي يتأسس عليها العالم الشعري عند عبد الله الرشيد، وهو الصراع الذي يفوتك أعمق ما فيه إذا اكتفيتَ بدلالته الظاهرة على مواجهة العالم الخارجي، ثمةَ صراع داخلي أعمق، وإن أشدّ ما يُقلق الشعلة المرتجِفة في مهبّ الريح؛ ليس: جنون الرياح، أو حِدّة العصف، بل: وهَن الذات المقاوِمة، ونضوب عنفوانها المتوقِّد!
4 - انتفاضة العنقاء..
وسط معازف الرحيل:
من الظواهر التي تستدعي التوقف في أدبنا العربي: قلة القصائد التي ترثي الأب؛ بالمقارنة مع مراثي الخلفاء، والقادة، والعلماء، وحتى الأصدقاء، أمّا المشهور من هذه المراثي الخاصة بالوالد؛ فيكاد لا يتجاوز أصابع اليدين؛ كمرثية قُتيلة بنت النضر، ونونية المعري: نقمتُ الرِّضا حتى على ضاحكِ المزْنِ، ومرثية أحمد شوقي: طالما قُمنا إلى مائدةٍ.. كانت الكِسرة فيها كِسرتينْ، بالإضافة إلى قصيدتين تحملان العنوان نفسه، وهو: أبي، لكلّ من: نزار قباني، وسميح القاسم، وبين هذه المراثي الخمس تبقى بائية نزار: هنا ركْنه تلك أشياؤهُ.. تفتَّقُ عن ألف غصنٍ صبي، هي أقرب ما تتذكره وأنت تقرأ قصيدة: معازف الرحيل لعبد الله الرشيد؛ ليس فقط بسبب اتفاق الرويّ، بل أيضاً للتشابه بينهما في أسلوب: تذكّر الفقيد من خلال أماكنه الأثيرة؛ مع امتياز قصيدة نزار بإيقاعها الراقص الأقرب إلى نفسية الطفل الطروب الذي لا يرى في الموت سوى رحلة قصيرة موعودة بالإياب السريع، وامتياز قصيدة الرشيد بإيقاعها الكهوليّ المهيب المكتنِز بالأسئلة والغُصَص:
أوَ هكذا يُطوَى جلالُك يا أبي؟
ما زلتُ بين مصدِّقٍ ومكذِّبِ
أودعتُ في عين المتاهةِ سَلوتي
ولففتُ إشراقي بوحشةِ مغربي
ورجعتُ محمومَ اليقين مفزَّعاً
أستافُ في يَبَس المسافةِ موكبي
وعلى هذا المنوال تمضي الأبيات بإيقاعٍ جنائزي مهيب يتسلل وئيداً إلى النفس حتى يأخذ عليها أقطارها؛ بدءاً من العنوان، حتى آخر بيت، وعلى امتداد القصيدة تتوالى الصوَر والذكريات والأماكن المرتبطة بالفقيد: الركن الحليم، والكتب المنتظِرة، والدفتر الريّان؛ ووسط هذا كله ثمةَ مزج شجيّ بين البدايات والنهايات، بين محطة الوصول الأخيرة، والخطوات الأولى على الطريق؛ كأن الإنسان إذْ ينتهي يبتدئ، وكأن الطفولة تولد منتفِضةً من رحِم الموت:
طوّقْتَني شوقَ النخيل إلى الذُّرا
وعقدتَ ناصيتي بأضوأ كوكبِ
وسندتَ ضعفي يومَ قلّ مُسانِدي
ورفعتَ ما بين المناكب منكبي
واليومَ أوحدني الضنى في بحرِهِ
غِرّاً وأنكرتِ الشواطئُ مركبي
اعتمدت هذه القصيدة على تقنيتين أُسلوبيتين أساسيتين، وهما تقنية: الصوَر المتقابلة المنتزَعة من مفارقات الحياة، وتقنية: التكرار المتجاور للكلمات، وكأن القصيدة تلخِّص من خلال هاتين التقنيتين الحياة برمّتها: بمفارقاتها المتضادة، وتكرارها الرتيب للفواجع والمآسي.
ومع هذا لم تخلُ هذه القصيدة البديعة من انكسار معنوي يُقلِّل وهج التدفق الشعري فيها، وتمثّل هذا الانكسار في بيتين «مادّيين» غريبين عن أجواء القصيدة، وهما قوله:
وودِدتُ لو أشري بقاءكَ موقناً
أني أعلِّق بالمجرّة مطلبي
والبيت التالي له، وأنا أقول: هناك أشياء في الحياة أسمى بكثير من أن نفكِّر بشرائها.
5 - ملحوظات ختامية:
أ - واصل الشاعر في هذا الديوان تميزه اللافت في وصف التجربة الشعرية؛ ولا سيما في قصيدتيه: مُلاسنات خبيء لا يجيء، طقوس المجيء.
ب - من الملحوظات الإيقاعية على الديوان: الجرأة في اختيار القوافي غير الشائعة؛ كما في قصيدتيه: للهرب لون آخر، مهنّد يمزِّق ورق التقويم، وفي الديوان انكسار نادر في وزن البحر الخفيف في قصيدته: ضريمة، والكسر ناتج عن زيادة: فاعلاتن بين الشطرين في قوله:
ارتساماتهُ ذهولٌ طُفوليٌّ
وحُمّاه احتفالٌ ببعثِهِ الميّادِ
ج - تبدو بعض القصائد في الديوان؛ وكأنها انعكاس مباشر لقراءات الشاعر التراثية، فقصيدة: سؤال الدم تظهر عليها بصمات: الرسالة الجِدّية لابن زيدون، وفي عدد من قصائد الديوان حضور بارز للجنّ والأشباح والشياطين؛ وكأنه انعكاس لقراءات الشاعر في هذا المجال؛ ولا سيما إذا تذكّرنا أنه كتب قبل مدة بحثاً علمياً لطيفاً عن: شعر الجنّ في التراث العربي.
د - تنمو أسئلة الشاعر وتزداد عمقاً مع توالي دواوينه، وهذا مؤشِّر لا تخيب دلالته على تعمّق الرؤية الشعرية، وانفتاحها على المخبوء والمجهول، وفي هذا الديوان تكاد قصيدته: إفضاء مُرتبِك إلى زائر استثنائي أن تستحيل إلى سلّة مملوءة بالأسئلة المفتوحة: المربِكة والمرتبِكة.
- د. سامي العجلان