إن كلام الله مغاير لكلام البشر من عدة أوجه؛ فلو أراد شخص أن يدعو الناس ويحثهم على الصلاة فإن الألفاظ ستكون أمامه محدودة وللسامع معروفة، وسيعي المتلقي يقينا منها أن المقصود من هذه الدعوة إلى الصلاة هو أدائها وليس هناك معنى أبعد من ذلك. ويظهر قصور البشر في نظمهم وكلامهم إذا ما قارناه بكلام ربهم. وهنا إشارة إلى نظم القرآن في إحدى آياته.
فحينما أراد الله أن يحث الناس على الصلاة فإنه أتى بكلام مُعجز فقال {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فقد أمر الله ابتداء بالمحافظة على الصلاة ومفردة المحافظة تختلف عن المداومة والملازمة وغيرها من المرادفات، فكل كلمة في القرآن جاءت بإعجاز فائق البيان وموضعها من الجملة لا يحتمل استبدالها بمفردة أخرى ولن تجد أفضل منها. فالمحافظة يقصد بها أداء الصلاة في أوقاتها التي شرعت بها. ولفظ المحافظة فيه دلالة على أهمية ذلك الشيء الذي أمرنا بحفظه وهو الصلاة.
ثم إن المتأمل لفقدان أحد أطراف مجموعة متجاورة ومترتبة بصف واحد كشجر النخل سيجد أن أثر الفقد سيكون من حيث العدد، وأما الشكل فسيكون متناسق متلائم لنظرة العين، ولكن حين تفقد نخلة في وسط المجموعة فإن اختلالها سيكون واضح للعيان من الفراغ الذي ستخلفه، فحينما خصص الله الصلاة الوسطى بالعناية جعلها مبهمة فهي من مجمل الصلوات المفروضة، والمقصود هنا أن كل صلاة تقع في محل هذه الصلاة الوسطى من حيث العنصر الوسط في المجموعة المتناسقة، الذي إذا فقد أثر تأثيرا قويا على الهيئة الكلية، فصار الذي يترك أي صلاة في محل مخل أمام جميع الصلوات، فالصلاة الوسطى تختلف من شخص لآخر، فلو جئنا بشخص مقصر في أداء صلاة الفجر في وقتها فإن هذه الصلاة ستكون هي صلاته الوسطى التي أمر بالمحافظة عليها، ولو وجدنا آخر يقصر في أداء صلاة العصر فإنها ستكون صلاته الوسطى التي حث الله على العناية بها.
وقوله (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) أي أن يقوم الشخص للصلاة بشكل معتدل فلا يخفض رأسه وينحني بظهره فهذه الهيئة لا تعتبر قياما لحدوث الميل فيها ولانتقاصها من درجة الكمال فالميلان معبر عن النقص في هيكل الصلاة، والقيام دلالة على إعطاء الصلاة حقها من التهيؤ والأداء، وهو أيضا ينسحب على شرود الفكر في أثنائها، فإن الميلان عنها بالتفكير ما لا يتغير من أمور الدنيا بتفكيره، فلا يقرب بعيدا ولا يبعد قريبا، ولكنه يعرف الإنسان عن المهمة العظيمة التي هي (قَانِتِين) أي أن يكون القيام باعتدال الهيئة وبحضور تام للقلب يقوده الاستعداد الظاهري والإقبال القلبي إلى الخشية فيكون العبد في أجمل حالاته وأكملها.
هذه هي حقيقة الوقوف بين يدي رب العاملين في الصلاة.
إبراهيم الأخضر بن علي القيّم - شيخ القراء في المسجد النبوي