د. رزين بن محمد الرزين
يتحدث الناس كثيراً عن الفساد المالي بلا توقف، وهو قضية العصر وشغله الشاغل، ولاشك في خطره على المجتمع، فالاقتصاد عصب الحياة، ولكن الفساد العلمي أخطر وأسوأ،
بل إنه يؤسس للفساد بكل أنواعه، ويساهم في تجذيره في المجتمع واستمراره، ويحول الفساد من حالة عابرة، إلى فساد مؤسسي منظم، يصعب بعد ذلك اقتلاع جذوره، الفساد العلمي يعني إضاعة كل جهد تبذله الدولة على التعليم، الفساد العلمي يعني أننا أمام نهضة علمية مخادعة، الفساد العلمي يعني التشكيك في الدراسات والإحصاءات ونتائج البحوث العلمية ومخرجات المؤسسات التعليمية، الفساد العلمي يعني أننا سنراوح مكاننا، بينما تصعد مجتمعات أقل منا خبرة وتاريخاً وعراقة، الفاسد العلمي بيئة خصبة لتخريج المدير الفاسد، والطبيب الفاسد، والمحاسب الفاسد، والمهندس الفاسد، والمعلم الفاسد، وكل واحد من هؤلاء مصيبة تمشي على الأرض! ومن أمثلة هذا الفساد:
- الشهادات الوهمية: وهي صورة من صور الفساد، وتعكس رؤية المجتمع للشهادة العلمية من كونها وسيلة للنفع وشهادة على تمكن صاحبها في التخصص؛ إلى غاية ومكمل للوجاهة، وأداة للحصول على المناصب والفرص التي قد لا يحصل عليها صاحبها إلا بها، والحاصل على هذه الشهادة وإن كان مرتكباً لفساد علمي بلا شك، إلا أنه أيضاً ثمرة لنظرة المجتمع السطحية للشهادة، وهذا الفساد في نظري على خطورته، إلا أنه من أسهل الأنواع معالجة، ويمكن القضاء عليه بيسر عبر بعض القرارات الإدارية، والمواقف المجتمعية، ولعل وسم (هلكوني) الشهير أحد هذه المواقف التي أدت إلى تخلي الكثيرين من حملة هذه الشهادات عنها.
- السرقات العلمية: وهذا النوع من الفساد أخطر من النوع الأول، فمرتكب السرقة غالباً يدرس في جامعة معترف بها، وربما تكون من كبريات الجامعات، شهاداتها موثوقة، وقد يكون أيضاً مرتكب هذا النوع من الفساد أستاذاً جامعياً وهذا ما يكرس الخطر، وقد يكون طبيباً أو مهندساً، فلا تسل عن حجم الأخطاء الطبية، والمعمارية القاتلة، ومما يحز في النفس أن مرتكب هذه الجريمة قد يكون أستاذاً يحكم على الرسائل العلمية، ويجيز الباحثين، ويؤهل المعلمين، ومثل هذا لا يؤتمن على شاتين عجفاوين، ولكنه - للأسف - مؤتمن على فلذات الأكباد ومهج الأفئدة!.
وهذا النوع على خطورته، إلا أن معالجته ممكنة عبر تشديد إجراءات تحكيم البحوث العلمية وفحصها، وخصوصاً مع توفر البرامج القادرة على اكتشاف السرقات العلمية، ومع الجدية في المواجهة ستنخفض صور هذه الجريمة بشكل كبير.
- النوع الثالث: وهو في نظري أخطر هذه الأنواع وأكثرها شيوعاً، وهو تزوير البحوث العلمية، عبر إسناد الباحث بحثه، أو واجبه الدراسي، أو مشروعه العلمي، لمن يقوم بتنفيذه بمقابل، وقد لا يشتمل هذا البحث المزور على معلومات مسروقة، وهنا مكمن الخطورة حيث يصعب اكتشاف مثل هذا النوع، ولاسيما أنه مرتبط بمافيات وشبكات تقوم بتنفيذ هذه المشاريع والبحوث، وربما يكون المقاول في بلد والتنفيذ في بلد آخر، وهذا الفساد هو أخطر الأنواع، ومواجهته تحتاج لجهود كبيرة، منها مراجعة طرق التسجيل والإشراف، بل ومراجعة أساليب القبول في البرامج العلمية، ومنها الاختبارات بأنواعها.
- النوع الرابع: إضاعة الأمانة في القيام بالوظيفة التعليمية سواء تقديم المادة العلمية أو شرحها وتوصيلها للطلاب وكثرة الحذف وتبسيط المقررات حتى تتحول إلى مقررات خاوية بلا مادة علمية حقيقية، وكثرة التغيب عن المحاضرات، وتضييع الدروس في الأحاديث الجانبية، ويمكن معالجة هذا النوع بالاختبارات التحصيلية والمهنية، وتطبيق معايير الجودة تطبيقاً حقيقياً.
- النوع الخامس: ضعف الاهتمام بوضع الاختبارات حيث أصبح كثير من الأساتذة اليوم يعمدون إلى وضع أسئلة موضوعية يتم الإجابة عليها بصح أو خطأ أو اختيار الإجابة الصحيحة في موضوعات لا تناسب هذا النوع من الاختبارات، وبطريقة سيئة، وغالباً هذه الأسئلة موحية بالإجابة، وغالباً يقوم الأستاذ بتكرار الأسئلة فصلاً بعد فصل، فتجد لدى الطلاب بنكاً لأسئلته يذاكرونها ويدخلون الاختبار، وتطبيق معايير الجودة سيسهم في القضاء على هذا النوع من الفساد.
- ضعف الاهتمام بالتصحيح، فإن كانت الأسئلة موضوعية فقد يتم تصحيحها آلياً، ولا تستغرب بعد ذلك إذا رأيت حامل بكالوريوس لا يحسن كتابة اسمه، وقد يقوم الأستاذ بتصحيحها تصحيحاً شبه آلي لا يدقق فيما كتبه الطالب ولا يقرأ إجابته ويكتفي بالمظهر العام للإجابة!.
وفي نظري أن كل الأنواع السابقة منظومة متكاملة، يولد بعضها بعضاً، فلا تتوقع من أستاذ سرق بحوثه أو اشترى شهادته أن يكون أميناً في تدريسه ولا أسئلته ولا تصحيحه ولا إشرافه، ولا مناقشته ولا تحكيمه، وسيغض الطرف عمّا سيراه من سرقات وفساد، وسيؤسس للفساد أينما حل أو ذهب.
إن من المؤسف أن هذا النوع من الفساد لا يحظى بالاهتمام المناسب له، سواء على المستوى الرسمي أو المجتمعي، ولا توجد إجراءات رادعة حتى الآن لمواجهته، ولاتزال الجهات العلمية مكتوفة الأيدي تقريباً أمام حالات الفساد العلمي المتنوعة، ولا نزال إلى اليوم نفتقد العقوبات الرادعة لهؤلاء المجرمين، من يسرق المال يسرقه لمرة واحدة ويمضي، ولكن لصوص العلم يستنزفون الوطن وإمكانياته، ويقفون سداً منيعاً أمام المعرفة الحقيقية التي كانت كلمة السر لنهضة الأمم الحديثة.
** ** **
* أستاذ المحاسبة والرقابة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - وعضو المجلس التنفيذي بجمعية حماية المستهلك