المؤرّخان..! (1-2) ">
في أحد نهارات الرياض القابعة في ذاكرة الطين، محيميد صاحب السبعة عشر عاما، مضى إلى أحد الدكاكين المجاورة لمنزلهم بحي دخنة، واضعا يده اليمنى في جيب ثوبه الأيمن الذي يحوي على سبعة قروش أخذها من والده نتيجة حفظه بعض سور القرآن الكريم، اقتنى بسعادة غامرة قارورة (بيبسي)؛ لأجل ميعاد لقاء الأصدقاء في حارة تتسع كثيرا لأحلام فرح أولئك الرفقاء.
بعد أن خلع محيميد طاقيته من رأسه المملوء بمزاج السعادة، هتف مقترحا : ما رأيكم أن نلعب لعبتنا..؟
- ردّ الأصدقاء : نعم نريد أن نستمتع ...
من بين الأصدقاء تقدم صويلح؛ ليدخل في غمار التحدي ضد محيميد، كلاهما يلتقيان بحب وقت الشدائد؛ لكنهما في ذهنية أبناء الحارة كضدين لدودين حال لعبِهم الكرة وأي لعبة أخرى كانت ترسم جمالا بحجم السماء في صدورهم..
محيميد رجّ علبة القارورة إيذانا ببدء اللعبة وسط اصطفاف بقية الأصدقاء وقال : طاااااش...
وردّ صويلح : ما طاااااش...
والقارورة تتخذ وضعية الثبات على الأرض، وبعد أن فتح صويلح العلبة بمفكّ (القرار) : طاشت؛ ليشرب محيميد فوزه الثمين في تلك اللعبة...
ولتتحول تلك اللعبة بعد عشرات السنين إلى اسم لأيقونة مرئية ساخرة يتسمّر أمامها جلّ السعوديين من أجل الضحك والتسلية وقت المغرب في رمضان من كلّ عام استمرّ - تقريبا - أكثر من خمسة عشر عاما؛ وليصبح ( طاش ما طاش ) التاريخ الاجتماعي الحقيقي؛ لواحدة من أهم دول الشرق الأوسط : المملكة العربية السعودية.
المتأمل بعمق لتاريخ ذلك المسلسل والمتتبع لحلقاته بعيني الفاحص النابه؛ يجد أنها تمثل تماماً الوجه الحقيقي للتاريخ الاجتماعي للمملكة العربية السعودية ومن أهم ملامح دلالات انعكاس ذلك المسلسل للتاريخ الحقيقي الاجتماعي للمملكة:
1 - أن من كتب جُلّ حلقات وأفكار ذلك المسلسل، لم يك من النخبة العالية في المجتمع السعودي؛ بل جاءت من أفراد خرجوا من صميم وأعماق الشارع السعودي البسيط؛ حتى مع التحاق بعض أفراد النخبة العالية في المجتمع بورش الكتابة - في بعض أجزاء المسلسل - لكنها لا تُشكل شيئا أمام أولئك الأفراد الذين ينتمون للشارع السعودي البسيط؛ لذا جاءت حلقاته تتطابق تماماً معه... وهنا يتضاد إيجابيا مع (الرسميّة) في التأليف الكلاسيكي الأكاديمي الذي يطرح موضوعات التاريخ الاجتماعي لمجتمع ما وتكون خاضعة عادة لبيروقراطية المؤسسات الرسمية للدولة.
2 - طبيعة المسلسل الساخرة التي سمحت برفع سقف طرح الموضوعات الجريئة وتمرير بعض الأفكار الناقدة القوية للمؤسسات الرسمية بالدولة؛ لدرجة أن وزير الإعلام السعودي الأسبق فؤاد بن عبد السلام الفارسي قد طلب منه بعض الوزراء أن يكفّ المسلسل عن النقد الجريء لتلك الوزارات، ومن المعروف أيضاً أن الكوميديا أهم وسيلة لتمرير الأفكار الجريئة في البلدان التي تتسم بحدّة مقصّ الرقابة.
3 - تناغم - إلى حد ما - تمرحلِ مشاركة المرأة التي تمثل نصف المجتمع في المسلسل مع مسيرة مشاركة المرأة في المجتمع السعودي بأكمله؛ إِذْ إن المتابع للمسلسل يجد أن حضورها كان نادراً في الأجزاء الأولى - إن لم يكن معدوما كما في الجزء الأول - وتمرحل من ظهورها بشكل طفيف إلى أن انتقلت بشكل عام من لعب أدوار المرأة التي تعزم جيرانها وتقول : « قشمي قشمي قشمي يا أم محمد...» إلى حضور فاعل وقوي لدرجة وصلت حدّ امتلاكها أربعة أزواج وتتحكم بهم..!
- حمد الدريهم