قراءة في ضوء: قنديل حذام لعبدالله الرشيد (1-2) ">
«الشعر: تاريخ الروح».
سان جون بيرس
نصبتُ الفِخاخَ لأصطادَ عمري.. وعدتُ قريحاً كصيّاد رِيح !
عبدالله الرشيد
1 - العنوان المرتبِك.. الذات المنكفِئة:
«قنديل حذام» هو الديوان الخامس للشاعر عبدالله الرشيد، وقد صدرحديثاً عن نادي جدة الأدبي، يحمل هذا الديوان ملامح توجّه شعري جديد ستحاول هذه القراءة استجلاءه، ورصد أثره في تعميق الرؤية الشعرية للشاعر، أقول هذا لأن عبدالله الرشيد كان قد وصل في ديوانه الرابع: نسيان يستيقظ إلى أقصى حدود التوظيف الجمالي للّغة الشعرية الغاضبة والجهيرة، وبسبب هذا فقد قدّرتُ في دراسة سابقة عن الشاعر أن يحمل الديوان القادم للشاعر نكهة مختلفة، ونبرة مغايرة، ولم يخيِّب الشاعر هذا الحدْس النقدي، فجاء هذا الديوان الهامس المختلِف؛ بدءاً من عنوانه الساجي: قنديل حَذام.
لعل أول الأسئلة التي يُثيرها هذا العنوان المركّب هو: لماذا تحتاج حذامِ إلى أن تحمل قنديلاً ؟ هل كفّ القوم عن الإصغاء إلى قولها؟ ثم عن أيّ شيء تبحث حذام في ضوء هذا القنديل؟ هل ستحذو حذو ديوجين اليائس، فتكتفي بحمل قنديلها تحت أشعة الشمس باحثةً وسط ركام البشرية عن إنسان؟ هل يحمل هذا العنوان شيئاً من التناقض في بنيته الدلالية بين وثوقية التصديق التراثي لهذه الزوجة الحكيمة التي لم يملك زوجها: لُجيم بن صعب –وهو اللجيم الصعب- إلاّ الإقرار: بأن القول ما قالت حذامِ، وبين انكفائها المعاصر عن القول الجهير واكتفائها –بحسب صياغة العنوان- بالدلالة الصامتة الخجولة؛ عبر قنديلها الخافت المرتبِك؟
يتجلى هذا الارتباك «الحذامي» أيضاً في عناوين القصائد داخل الديوان، وخذ مثلاً هذه العناوين: مِسك الخذلان، سَورة انكفاء، معذرة إلى الضوء، هاربٌ من الصوت، على نبض مرتبِك، للهرب لون آخر، انطراح، إفضاء مرتبِك، وليس هذا فحسب، بل إن أول عبارة تصافح نظرك في الديوان، وهي عبارة: الإهداء تترجم بوضوح عن هذا الارتباك الحائر المخذول: «إلى الذين أيقظوني للشعر.. ورقدوا» !
هل سنقول الآن: إن هذا الديوان المرتبِك – منذ عنوانه- هو خلاصة شعرية تعبِّر بصدق موجِع عن هذا المنعطف التاريخي الذي أخذَنا جميعاً على حين غِرَّة منذ سنوات خمس، فحيّرنا، وبعثرنا، وتعثّرتْ في متاهته رؤانا وأحلامنا؟.. بدءاً من ربيع عربي مخذول استحال إلى شتاء عاصف لم يتوقف عن النزيف، ومروراً بهذا الانفجار المعرفي الهائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة التي أقضّت مضاجع الاطمئنان الغافي والسكينة العتيقة؟ هل سنضيف إلى هذا كله: التجربة الإنسانية الخاصة التي اكتوى بها الشاعر في الفترة نفسها بكل ما تحمله من قلق وحيرة وترقب؟ حقاً.. تأبى المصائب أن تأتي فُرادى ! ولله هو.. كيف عبَرَ في نهار واحد فوق كل هذه الأشواك ؟!..
عنوان الديوان إذن: وثوقية قديمة أصبحتْ قلِقة من وثوقيتها ! وتماسك ظاهري يُخفي تشظّيه الأعمق.. إنه باختصار: حذامِ التي فقدتْ صوتها -إذْ لم تعد تجد ما تقول- فاكتفتْ بحمل قنديل يرتجف؛ حتى «يكاد يضيء» !..
2 - مَرَح الشواطئ البعيدة:
الشعر الحقيقي هو ما يجعلك تُعيد النظر دائماً في النتائج التي تتوصل إليها؛ لتقييد دلالاتها المطلقة، والحدّ من أمدائها الواسعة، وهو ما ينطبق على هذا الديوان، فمِن الظواهر اللافتة فيه: شيوع روح التفاؤل: مفرداتٍ، وألواناً، وصُوَراً، وهذا على نقيض الديوان السابق: نسيان يستيقظ الذي سبق أن توقفتُ عند ظاهرة: الغضب اللاهب المسيطر على مفاصله، أمّا في هذا الديوان الجديد فستصافح وجهَك نسماتُ الهدوء والرضا والتفاؤل على امتداد صفحات الديوان، وقد تتذكر وأنتَ تقرأ بعض قصائده تفاؤليات أبي ماضي؛ كما هو الحال مع قصيدتيه: ينبضون ضوءاً فأين قمرك؟ و: مجاذبات روح، ففي الأولى يقول:
فكن انهماراً في ضمير غمامةٍ
واهزِجْ لينبوع الحياة خريرا
ستظلّ مائدةُ الندى أسطورةً
لمقامرٍ خاض الجمالَ ضريرا
وفي القصيدة الأخرى يقول:
قُمْ وادعُ للحبّ إن الحبَّ أوّلُهُ
نُعمى، وآخرُهُ يستقطرُ الأبدا
ما قيمة المرء لم يزرع له أملاً
ولم يكن باخضرار الروح معتقِدا
ومن دلائل التفاؤل أيضاً في الديوان: هذا الانتشار الواسع للألوان فيه؛ مع تسيّد واضح للون الخصوبة المتفائلة: الأخضر، ومن بين القصائد تلفت النظر قصيدة مفعمة بالألوان، وهي قصيدة: وجوه رطبة، وبألوانها يبدِّد الشاعر ظلمات الشكّ والحقد والتشاؤم؛ نافضاً يديه منها، ومحرِّراً روحه من قيودها، ومصطفّاً مع التسامح الراضي، والتفاؤل الفياض:
فلقد نفضتُ على التخوم مواجعي
ووعدتُ أيامي بألاّ أثأرا
وطليتُ ذاكرتي بلونٍ ضاحكٍ
وبزغتُ طفلاً بالبراءة مُقمِرا
علِمَ الغمامُ بأنّ بين ضيوفِهِ
شوكاً فأغمض مُقلتيهِ وأمطرا
ومن الدلائل كذلك على الروح الراضية والمتفائلة في الديوان: شيوع مفردة: الضوء ولوازمها في قصائده، وقد أحصيتُ ما يتجاوز ثلاثين موضعاً لتردّدها في الديوان، وكأنّ هذا الشيوع تصديق للوعد المضيء الذي وَشَتْ به الكلمة الأولى في العنوان: قنديل حذام، وعلى امتداد الديوان سيقودك هذا الضوء المتفائل أينما التفتّ.. حتى في القصائد المعنيّة بتصوير بعض الهموم العامة أو الخاصة ستجد دائماً في النهاية تلك النبرة الراضية المتسامحة، وربما تكون قصيدة: في انتظار السفينة هي الاستثناء الوحيد الذي يؤكد القاعدة، فروحها الانعزالية الساخطة غير متوائمة مع الروح العامة للديوان، وكأنها تنتمي للفترة الزمنية نفسها التي صدر فيها الديوان السابق: نسيان يستيقظ!
هاهنا إذن نفَس شعري جديد في هذا الديوان؛ فما الذي تغيّر؟.. لعل هذا السؤال سيكون أكثر إلحاحاً إذا تذكّرنا أن الفترة الزمنية لقصائد هذا الديوان هي من أكثر الفترات الزمنية مدعاةً للحزن والكآبة، وأنا هنا لا أشير فحسب إلى محنة: العارض الصحي الذي ألمّ بالشاعر، بل أيضاً لأن هذه الفترة تحديداً شهدتْ زلزال: الربيع العربي الذي اكتنز بكثير من المآسي والفواجع والخيبات على امتداد الخارطة، وأينما توجّه البصر، ألسنا هنا أمام مفارقة غريبة؟ كيف يفيض الشعر رضا وتفاؤلاً في أحلك الأوقات وأقسى الظروف؟ هل الإبحار المسترسل في خِضمّ الألم هو ما ينتشلنا من شواطئه القريبة الصاخبة المتضجّرة إلى شواطئه الهادئة البعيدة المغتسِلة بالحبور والرضا والمكلَّلة بالاطمئنان والتسليم؟.. في الديوان قصيدة صوفية محلِّقة عنوانها: على نبض مرتبِك، وصل فيها الشاعر إلى أقصى حالات التجلي مع الذات، والفناء في معارج الضياء، يقول فيها وكأنه يؤكد ما ذكرتُه قبل قليل من انعتاق الروح، بعد سفرها المبحِر نحو الشواطئ الهادئة البعيدة من رحلة الوجع:
فتلاطمتُ موجةً في محيطٍ
غبتُ فيهِ، وغاب في بحرِ نوني
لم أعد هاهنا فلستُ الذي غنّى
لقد ذُبتُ، صرتُ من ذوّبوني
اجمعوني من الرياح إذا شئتُم
رجوعي، أو للفناء اتركوني!
- د. سامي العجلان