لم تكن المدرسة باليابان منذ بداية عهد نهضتها -ميْجي- عام 1868م، مجرد رمز للجديد فحسب، بل كانت واقعية ونافعة أكثر لحياة الناس ومجتمعهم. فكان تلقي التعليم في المدرسة النظامية يعني ارتفاع مكانة الإنسان الاجتماعية، وارتفاع فرصته بالترقي في المجتمع، أي كانت المدرسة نافعة ومهمة للنقلة الاجتماعية التي يأملها الإنسان.
ومن أجل تحقيق ذلك، كان لا بد أن يكون التعليم والعلوم التي تُدرس بالمدرسة لها علاقة من حيث المحتوى بحياة ومعيشة الإنسان في المجتمع، من خلال اكتساب قدرات فنية تمكنه من الدخول إلى سوق العمل، بداية من احترام قيمة العمل والأمانة في تأديته وصولاً إلى مختلف المهارات والمعارف. ولا بد من توافر مناخ استثمار وتوظيف هذا المحتوى التعليمي، وكذلك لا بد من توافر مبدأ تعيين الكفاءات في مكانها المناسب في المجتمع.
وبالفعل نستطيع أن نقول إن هذه الظروف قد تحققت في اليابان منذ نهاية عصر الإقطاع بأواخر عصر إيدو (1603-1867م) قبل دخول اليابان عهد ميْجي وبداية ما يُعرف بحركة ميجي الإصلاحية في عام 1868م، فقد أكد البيان الذي صدر في الثاني من أغسطس عام 1872م الذي سبق إصدار القانون الأساسي لنظام التعليم (غاكوسيه-gakusei، معناه حرفيا نظام التعليم) على العلاقة الوظيفية بين المدرسة والمجتمع؛ حيث ينص على أن التعليم ثروة ترفع من شأن الفرد.
كما تتضح هذه العلاقة من خلال المقررات الدراسية مثل كتب اللغة اليابانية الوطنية وكتب التربية الأخلاقية اللتين تحفلان بفقرات كثيرة عن ارتباط التعليم بالترقي في المجتمع؛ فترسخ بذلك الاتجاه السائد لدى الفرد بأن التعليم وسيلة للترقي وتقلد المناصب العليا في المجتمع بغض النظر عن طبقة هذا الفرد الاجتماعية التي نشأ فيها.. وهكذا، كانت المدرسة النظامية الحديثة تمثل مفهومًا ووجودًا عامًا من الأعلى تجاه الشعب، وبمثابة سلم للنجاح في الحياة والانتقال من الطبقة الدنيا إلى الطبقة العليا، وهذا لم يكن من الممكن أن يتحقق دون وجود هذه النظرة للمدرسة والعلم والتعليم.
هذه النظرة تجاه المدرسة خاصة أو التعليم عامة، ثقافة موجودة بشكل تقليدي في اليابان؛ حيث تنبع من حضارة شرق أسيا وموقفها من التعليم، فقد ركز الصينيون منذ القدم على أهمية التعليم، حيث كانت قوة الحكام قديمًا تقاس بما يتمتعون به من علم ومعرفة، وكان اختيار كبار موظفي الدولة يتم على أساس ما يتمتعون به من معارف.
وفي اليابان نفسها في أواخر عصر إيدو أو كما يسمى عصر طوكوغاوا نسبة للأسرة الحاكمة آنذاك، كان يُمنح الشخص المتميز دراسيًا وعلميًا اعتبارات خاصة في التعيينات بالجهاز الإداري بالدولة على الرغم من أن المجتمع كان مقسمًا -آنذاك- إلى أربع طبقات اجتماعية رئيسة، يختلف وضعها الاجتماعي تبعًا لارتفاعها أو دنوها من الناحية الوظيفية والاجتماعية. هذه الأفكار، هي نتاج الفلسفة الكونفوشيوسية للفيلسوف الصينى كونفوشيوس، تدعو إلى طلب العلم والمعرفة والحكمة. وقد تأثرت بهذه الفلسفة الصين وكوريا واليابان، وهذه المفاهيم هي التي تقف وراء الحماس الشديد للياباني تجاه العلم والمبادئ الأخلاقية.
ولكن لماذا كان يُنظر للتعليم هذه النظرة القيمة الإيجابية؟ قد يكون لهذا علاقة بما يؤكد عليه البروفيسور البريطاني رونالد دور- Ronald Dore المتخصص في الاقتصاد والمجتمع الياباني، أن التعليم كان يُنظر له في اليابان على أنه يجعل الإنسان يعي الواجب الأخلاقي. ففي عصر إيدو، كانت المقدرة التعليمية المعرفية عند اكتساب مهارة أو تعلم قراءة المقاطع الكتابية، لا تزيد عن كونها مجرد وسيلة من أجل هدف أخلاقي. فحتى التلاميذ ذوي المستوى المتدني غير الماهرين في قراءة الكتب، أخلاقياتهم وسلوكياتهم صحيحة، ويحترمون الأكبر سنًا ويقدمون الولاء لحاكمهم، ويقومون ببر والديهم، وهم بذلك يكونون قد اكتسبوا جوهر العلم، وهذه جماليات تستحق الثناء والمديح. هذه النظرة بشكل عام تجاه الغرض من التربية والتعليم، اتفق عليها كثير من كبار المربين والفلاسفة أمثال جون لوك- John Locke، وبستالوزي - Pestalozzi، وكذلك هربرت سبنسر- Herbert Spencer الذي يرى أن الغرض من التربية يُمكن أن يُجمل في كلمة واحدة وهي الفضيلة. ولذلك لم تكن قد ظهرت بعد النظرة للتعليم على أنه مرحلة لتمييز الإنسان وانتقاء الكوادر المتميزة من منظور اكتشاف القدرات الكامنة في الفرد، وصقل هذه القدرة المعرفية.
وهذا يعني أن التعليم، علاوة على كونه شيئاً لتهذيب الإنسان أخلاقيًا، كان يحظى بنظرة وقيمة تقديرية كبيرة، وكان الشخص الذي تلقى التعليم يحظى بالاحترام. وإذا قسّمنا معنى التعليم إلى قيمة رمزية، وأخرى وظيفية على غرار هافيغهرست- R.J.Havighurst، فإن فكرة ربط جوهر التعليم بالإنسان هي تأكيد على القيمة الرمزية.
ويجدر القول قبل التأكيد على القيمة الوظيفية للتعليم من خلال ربطها بشكل عملي، أنها تعتبر سلما له علاقة بانتقاء الكوادر الجيدة وبلوغ الإنسان الترقي ومختلف المناصب في المجتمع. إن وجود ثقافة تقليدية في اليابان تقدر القيمة الرمزية، كان عاملاً مهمًا وأساسيًا لتميز المدرسة في اليابان. هذه التقليدية اليابانية في التعليم التي تدعم إعطاء الأفضلية للمدرسة، موجودة منذ أمد بعيد وإلى الآن. والمدرسة التي تقوم بهذا التعليم، تقوم بمطالبة الأسرة برعاية الأطفال في واجباتهم المدرسية، ودعمهم في تأخرهم الدراسي. وكأن هذا أمرًا طبيعيًا وبديهيًا. وكذلك تصدر تعليماتها لأولياء الأمور بشأن مختلف الأمور بداية من الأشياء التي يجب أن يحضرها الأطفال معهم إلى المدرسة، مرورًا بالمصروف اليومي والزيّ المدرسي، إلى خطة وجداول الأطفال الدراسية في العطلة الصيفية، وتولي الآباء والأمهات الإشراف على بعض الأنشطة، حيث تطالب المدرسة الأسرة بالعون والمساندة المادية الحسّية.
وفي المقابل تخضع الأسرة تمامًا لهذه الطلبات. كما لا تزال المدرسة (أو الجامعة) في اليابان تقوم بدورها في توفير الفرص الوظيفية لخريجيها، وهذا قد يكون تقليدًا موروثًا في الثقافة اليابانية، حيث يتحمل الكبير مسئولية إعداد الصغير لمواجهة الحياة، حيث يتحمل المسؤولون بالتعليم الثانوي والجامعي عبئًا كبيرًا لمحاولة توظيف خريجيهم، ثم تقوم جهات العمل بدورها لاحقًا بإعداد هؤلاء الخريجين للعمل من خلال رفع مستواهم العملي والمهاري، وإكسابهم الخبرة. كما أن الشركات تقوم بالتعيين بناءً على توصيات المدارس الثانوية، وكلما ارتفع المؤهل الدراسي، ارتفعت نسبة فرصة الحصول على وظيفة جيدة، وبالتالي تزيد الفرصة في تحسن المستوى المادي والاجتماعي. وللحديث بقية إن شاء الله.
أ.د./ شهاب فارس - أستاذ اللغة اليابانية - كلية اللغات والترجمة جامعة الملك سعود