العولمة وآليات التطور ">
في المجتمع البدائي الواحد لم يكن هناك استغلال فرد لآخر, وكانت آلية التطور هو الصراع مع الطبيعة, أي استحداث الأدوات والوسائل الأكثر فاعلية للصيد وجمع الثمار البرية تبعاً للنمو السكاني.
بكلمات أخرى عندما أصبحت الأدوات الحجرية لا تفي بحاجات النمو السكاني, طور الانسان البدائي ادوات خشبية ثم نحاسية ثم حديدية ... الخ.
الصراع مع الطبيعة تمثل في تطوير القديم ليلبّي حاجات المجتمع المتنامية، أي الصراع الواعي بين القديم والحديث. هذا النوع من الصراع لا يتخلله تناحر، فهو من مصلحة الجميع ولا يتطلب قانون وقضاء وقوات مسلحة وسلطة ..الخ لتنفيذه.
منذ بداية الحضارة مروراً بالعبودية والقنانة والإقطاع حتى الرأسمالية، كان الصراع الطبقي بين من يملك ولا ينتج ومن ينتج ولا يملك هو آلية الصراع. هذا النوع من الصراع أنتج التناحر والعنف والحروب وقسم البشرية الى شعوب وقبائل.
نحن الآن في مرحلة انتقالية نحو العولمة والصراع الطبقي يتراجع، ويتنامى الصراع الشعوبي، الذي يتجه في المحصلة لترابط دولي غير استغلالي شبيه بالمجتمع الإنساني الواحد، ولكن هل يمكن تلمس ما هي آلية التطور بعد تحقيق العولمة؟
آليات التطور لا تنشأ فجأة، فالصراع الشعوبي بدأ ضعيفاً بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيم العالم، ثم اشتد خلال الحرب العالمية الثانية، وتصدر المشهد في مرحلتنا الانتقالية هذه ليزيح الصراع الطبقي الذي بدأ بالاضمحلال.
إذن آليات الصراع ليست ثابتة على نمط واحد، وتستبدل بعضها بعضاً حسب المرحلة التطورية، ولكنها ضرورية لاستمرار التطور.
في المجتمع البدائي او الابتدائي كانت آلية التطور هي الصراع بين القديم والجديد، ولم تكن تلك الآلية رغبة ترفيهية من احد الافراد، إنما ضرورة لتلبية حاجات المجتمع ككتلة متنامية. كما أن مفعول آلية التطور تلك لم يقتصر على أدوات الصيد، إنما شمل الاسطورة والعلاقات الاجتماعية المبنية على الوعي وعلاقات الزواج والتنظيم الاجتماعي العام.
هل يمكن من خلال آلية الصراع الابتدائي ذاك تلمس ما ستكون عليه آلية الصراع بعد العولمة؟ فالمجتمع البدائي هو تكوين بشري واحد والعولمة هي أيضاً تكوين بشري واحد، فهل يجوز القول إن آلية التطور في العولمة هي بين القديم والحديث؟ الجواب (لعم) أي نعم ولا في آن واحد ... كيف ذلك؟
الصراع بين القديم والحديث لم ينته خلال الصراع الطبقي، إنما تطور بعد الرأسمالية الى مستوىً أعلى من ذي قبل، فقد دعا رواد عصر النهضة لـ(الحداثة) وليس لـ( الحديث) ما الفرق بين هذا وذاك؟
كان يتم التوصل للحديث في المجتمع البدائي بدون تناحر بين افراده، أما الحداثة فتوجد قوى تكونت عبر التاريخ الحضاري كله وفي كل المجتمعات ضدها لأنها التطور ذاته.
الحداثة كمصطلح لم تظهر إلا في عصر التنوير والنهضة، ولكنها كانت موجودة بدون تسمية منذ تفتت المجتمع الواحد الى نتف متناحرة.
يقول د. ابراهيم الح يدري (ايلاف 2يونيو 2009) (والواقع إن عصر التنوير هو مفتاح الحداثة...على الرغم من أن اصول الحداثة تعود الى الفكر والفلسفة الإغريقية والديانة المسيحية والفلسفة الإسلامية العقلانية...فإن (كانتْ) كان اول من صاغ مفهوما للتنوير عندما قال «إن التنوير هو خروج الانسان عن قصوره الذي اقترفه بحق نفسه وعجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر»)
كانت الحداثة في عصر النهضة هي فصل (سلطة) الكنيسة عن الدولة والمجتمع، ثم تطورت الى منهج مضاد للسلطة السياسية بشكل عام، أي أن النقيض الأساسي للحداثة هي السلطة السياسية وليس ما يشاع أن النقيض هو التراثوية أو القوى التي تدعي التمسك بالتراث. يحارب الرأسمال الحداثة بوسائل متعددة وهي كالتالي :
العنف الفكري
كان الاعتقاد السائد في الثقافة العالمية خلال القرن التاسع عشر وبداية العشرين، أن الرأسمالية تكنس ما قبلها من أنظمة، والعلاقات الاقتصادية الرأسمالية ستغير ثقافات الشعوب.
هذا الاعتقاد كان مبنياً على قراءة منهجية حسب المنطق الديالكتيكي، وهو صحيح عندما كانت الرأسمالية ثورية بعد عصر النهضة مباشرة، ولكن بعد أن تحولت الرأسمالية الى أعلى مراحلها - وهو الاحتكار او ما يسمى (الإمبريالية) وظفت كل ما هو متاح لديها ولدى غيرها لمحاربة الحداثة. ذلك لأن الحداثة تعني نهاية النظام الرأسمالي.
باديء ذي بدء أشاعت الرأسمالية في الثقافة العالمية أن النظام الرأسمالي نهائي، ولا بديل أفضل منه، وأننا كبشر نعيش مرحلة ما بعد الحداثة (انظر عادل العلي - كتاب سطوة المصطلح - ما بعد الحداثة ص173).
ما بعد الحداثة كمفهوم وهمي أشيع في الإعلام في بداية الأمر، ثم في التعليم الجامعي ليكون منهجاً يجابه الحداثة، وهنا بالذات تحولت ما بعد الحداثة الى إرهاب فكري، حيث لا يمنح أحد شهادة الماجستير او الدكتوراه إلا عندما يروج لما بعد الحداثة، ومن يروج للحداثة يتعرض للترغيب والترهيب من المؤسسة التعليمية المرتبطة بالمافيا الرأسمالية.
لم يكتف الرأسمال بهذا الإجراء الإرهابي، إنما روج الى أن الحداثة ليست من صلب التطور الاجتماعي، فهي فكرة مثقفين يريدون هدم التراث، ثم أنشأ بواسطة مخابراته الأخطبوطية فصائل من (المثقفين الجدد) في جميع انحاء العالم لمحاربة الحداثيين، فتجد مثل هؤلاء ليس لديهم همْ سوى اصطياد الحداثيين ومحاربتهم بشتى الوسائل لعزلهم اجتماعياً.
العنف المباشر
بالرغم من أن الحداثة هي من صلب عملية التنمية لأي شعب او قبيلة، لم يتوانى الرأسمال من ضرب عملية التنمية في الدول النامية والصناعية ايضاً. قد يكون إبقاء اقتصادات الدول النامية وحيدة الجانب خير مثال على تخريب عملية التنمية، ولكن ماذا تفعل المافيا الأميركية في الدول الصناعية القوية باقتصاداتها وقواها البشرية؟
سعت الولايات المتحدة لإعاقة نشوء الإتحاد الأوروبي، ولكنه تشكل رغما عنها، فلجأت الى دعم اليمين الأوروبي وتكونت حكومات مرتمية بأحضان الولايات المتحدة وتعيق توسيع الإتحاد او تحوله الى الحداثة، كما تعرض ويتعرض الحداثيون في اوروبا وغيرها للإقصاء في كل المجالات الإعلامية والإبداعية والتعليمية والتشريعية والقضائية والتنفيذية والمؤسسات الغير حكومية أيضاً.
ربما لا تستطيع الولايات المتحدة منع الحداثة في الاتحاد الاوروبي، ولكنها تحاول اعاقتها وخاصّة بالإرهاب الذي كشر عن أنيابه في الملعب والمسرح الباريسيين مؤخرا، حيث يعاقب رئيس وزراء فرنسا على موافقته على المبدأ (الروسي) بتجفيف منابع الإرهاب.
الوسائل التي يتبعها الرأسمال لإعاقة الحداثة كثيرة ومتشعبة، ولا مجال هنا لتناولها بالتفصيل، ولكن اذا كانت الحداثة هي آلية التطور في ظل العولمة فما هو نقيضها الذي يجعلها فاعلة؟
يوجد نقائض للحداثة حاليا تتمثل بالتراثوية والخصوصية و (المابعدحداثية) والظواهر الإرهابية الأخرى، ولكنها ليست نابعة من صلب آليات التطور، وهي ليست نقائض بالمعنى الديالكتيكي، أي عندما تنفض الحداثة هذه الأسمال البالية سيكون نقيضها الحداثة ذاتها، كيف ذلك؟
بعد العولمة سيكون الحداثي نقيضاً لما هو أحدث منه، أي أن الصراع سيتحول الى سباق، وتتحول شعوب الأرض من الهيمنة بعضها على الآخر الى تسابق تطوري فيما بينها، وتستغل ثرواتها وخصوصياتها الدينية والمعرفية في خضم تنمية محلية وإقليمية وبشرية عامة، تذوب فيها الفوارق في درجات التطور بين الشعوب.
لا يوجد حتى الآن مصطلح او تسمية لنقيض الحداثة ولكنه سينبثق حتماً، فكما كان التسابق بين القديم والحديث في المجتمع الواحد، سيكون التسابق بين (التخلف ربما) والحداثة في المجتمع المعولم الواحد، أي بين الحداثة و(التخلفوية) اذا صح التعبير.
- عادل العلي