لم يقف التجديد في القصيدة العربية على أوزانها أو بنائها الفني، أو كثافة التعبير بالصورة فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الأمور الشكلية التي صارت جزءاً من النص.
لقد اعتاد الشعراء أن يكتبوا قصائدهم العمودية على صورة عمودين متناظرين، ثم صاروا بعد ظهور شعر التفعيلة يكتبون القصائد التفعيلية أسطراً متتابعة، وليس في هذا الأمر ما يلفت الانتباه، إلا أن بعض الشعراء صار يكتب القصيدة العمودية كما يُكتَب شعر التفعيلة أسطراً متوالية، ولم يعُدْ بعضهم يكتب القصيدة العمودية شطرين متناظرين، وهو ما سمّاه الدكتور بدوي طبانة: التجديدَ الكتابيَّ، ونعَتَه بأنه تقطيع وتمزيق، وربما فات الدكتورَ بدوي طبانة أن يلتفت إلى قيمته النفسية لدى الشاعر، وقيمته الفنية التي تجعل التواصل بين الشاعر والمتلقي مختلفاً عنه في كتابته التقليدية. ولئن سمّت الدكتورة نازك الملائكة شعر التفعيلة بالهرَب الاجتماعي؛ فإن كتابة الشعر العمودي كتابةً سطريةً (بالسين) هو أيضاً نوع من الهرَب من شكل الكتابة التقليدي، ولهذا كان أحمد الصالح (مسافر) مثلاً يكتب بعض قصائده العمودية على هذا النحو:
ضمي ارتعاش الجرح
-في أحرفي-
ولملمي أشتات روح غريق
وحاذري...؟؟
أن تقتلي.. عزتي
فعزتي.. كالنبض
-ملء العروق-
إن وسوس الواشون
-في حبنا-
وفي حكايانا
وفضوا الرحيق
ستحفظ الأيام.. ما بيننا
«اثنان»
مرّا في جبين الشروق
وهذه أبيات على بحر السريع كتبها وكأنها من شعر التفعيلة، ومع عدم مراعاته لمواضع علامات الترقيم ومجانية كتابتها فإن تنسيق الأبيات لم يجرِ على نسق يخدم فكرة كل سطر، فإفراد كلمة (حاذري) -مثلاً- في سطر لا يعطي للكلمة قيمة مضافة، ومثل ذلك (في أحرفي)، و(في حبنا).
ويبدو لي أن محمود درويش أيضاً لا يقيم اعتباراً لفكرة تقسيم الأسطر بحسب معاني الجمل الجزئية، فهو يقول:
كم أنا
في الصباح ذهبت إلى سوق يوم
الخميس. اشتريت حوائجنا المنزلية
...
هل قلتَ لي مرةً إنني نخلة حامل
أم تخيلتُ ذلك؟ إن لم تجدني
أرفّ عليك، فلا تخش ضعف الهواء،
ونم يا حبيبي نوم الهنا...
فكلمة (يوم) مرتبطة بـ(الخميس) ارتباط وثيقاً نحوياً ومعنوياً، ومع ذلك جاءت كلمة يوم في سطر وكلمة الخميس في سطر، وكذا الفعل (أرف) فهو مرتبط معنوياً بعبارة (إن لم تجدني)، وهذا الفصل بينهما جعل تدفق النص في عين القارئ مرتبكاً، ولو أردتُ إعادة تنسيقها لكتبتُها:
كم أنا في الصباح
ذهبت إلى سوق يوم الخميس
اشتريت حوائجنا المنزلية
...
هل قلتَ لي مرةً إنني نخلة حامل،
أم تخيلتُ ذلك؟
إن لم تجدني أرفّ عليك،
فلا تخش ضعف الهواء،
ونم يا حبيبي نوم الهنا...
ويقول درويش أيضاً:
أضمّك، حتى أعود إلى عدمي
زائراً زائلاً. لا حياة ولا
موتَ في ما أحس به
ولو أنه كتبها على هذا النحو -مثلاً- لكانت أفضل من حيث تعبيرها عن المعاني:
أضمّك،
حتى أعود إلى عدمي زائراً زائلاً.
لا حياة ولا موتَ فيما أحس به
فالذي أراه أن تقسيم السطر ينبغي أن يكون تقسيماً يخدم المعاني والدلالات، بحيث تنتهي فكرة العبارة أو معناها بنهاية السطر، وتكون الأسطر ممثِّلةً للمعاني والدلالات تمثيلاً يضيف إليها قيماً فنية؛ لأن القراءة هي سمة الشعر الحديث الذي يتطلب أن تعيد قراءته وتتأمله غير مرة لكي تبدأ معانيه ودلالاته تتفتح لك، فقد صار شعراً أقرب إلى الروح، وتجاوزَ المرحلة السماعية كما يقول غازي القصيبي.
ولقد أحسن جملةٌ من الشعراء الشباب في هذا الأمر فكانت تقسيمات الأسطر لديهم خادمة للفكر، ومن ذلك قول عبدالرحمن العريج:
يا وعد بلفور تكفينا مآسينا
لا تنكأ العار.. فالذكرى تبكّينا
نصحو على الهم والأوجاع ساهرة
وثورة القول نذكيها فتشوينا!
ماذا فعلنا؟
بنينا العزّ قافية
وخطبةً سكِرتْ منها أمانينا!
بتنا نعيش على حرف ننمّقه
إنّا على الذلّ نلهو في مخازينا
بطولة أن نرى الأفواه مصلتةً
كضربة السيف..
لكن أين أيدينا؟!
فهذه أبيات عمودية كتبت في أسطر، والبيت القائل: ماذا فعلنا؟ قد خدم الفكرة بتقسيمه، وجعل القارئ يسكت سكتةَ المتعجب عن السؤال: ماذا فعلنا؟ كما أن الوقوف بعد قوله: كضربة السيف، قد جعل العبارة المفاجِئة بعده أكثر تحقيقاً للصدمة.
ومما يمثل المعاني كتابة إبراهيم الرواحي الشاعر العماني لقصيدته بهذه الصورة:
وحيداً
إلى حيث تلفظني الذكريات العقيمة
مثل المساء
المعطر بالشوك
وحدي
لا همس يحملني للفضاء
فإن كتابته لكلمة (وحيدا) مفردةً في سطر، وكذلك إفراد (وحدي) في سطر قد جعل القارئ يتمثّل الوحدة حقاً تمثّلاً معنوياً وبصرياً.
وفي قول عبدالله العريمي الشاعر العماني:
وما بين جرحٍ وجرحٍ تمرّ
فيطفئ عمرك هذا السرابْ
وعمّا قليل نؤجل هذا الغياب
ونعلن فوق المنابر
أنك أنت البهيّ،
النقيّ،
المضيء
فكتابة النقي بعد ترك مسافة كبيرة، ثم كتابة المضيء بعد ترك مسافة أكبر قد جعل القارئ يتمثل إعجاب الشاعر مخاطبِه، ودهشته من صفاته وهو يعددها وكأنه صوته يعلو مع كلمة البهي، ثم يعلو أكثر مع كلمة النقي، ثم يزداد ارتفاعاً مع كلمة المضيء. ومن التنسيق الذي مثّل لي الدلالة أكثر قول العريمي أيضاً:
لا بدّ منك حبيبتي
إنّا امتثلنا وامتلأنا بالغياب صغيرتي
فلترجعي
كي ترجع الأنهار والأقمار
أيتها البعيدةْ
ويلحظ أنه ترك فراغاً كبيراً في السطر الأخير (أيتها البعيدة) فمثّل بذلك للقارئ صورة البعد معنوياً وبصرياً.
وأجد أميرة صبياني ذات اهتمام بكتابة الأسطر بحسب أفكارها أو معانيها الجزئية، تقول:
وقطرة المطرْ
لن تستطيع خرق زحمة الآلامِ
أو معالم الظلامِ
أو غواية البطرْ
وربما يكون الأمر أكثر وضوحاً في الشعر العمودي حين يُكتب أسطراً كما يُكتب شعر التفعيلة، كقول أسماء الزهراني على الطويل:
أعانق فيك الفجر
فجر سعادتي
وأودِع في عينيك أسئلة السحَرْ
ولو خُيِّرتْ عيناي
بين ضياهما وفقد سنا رؤياك
ما اختارت البصر!
فإن تقسيمها للبيت: ولو خيرت... ثلاثة أقسام إنما هو بحسب الوقفات التي يمكن أن يقفها المتلقي وهو يتذوق البيت. أما عبدالمجيد الفيفي فهو أشد عناية بهذا التنسيق الذي يخدم عبارات النص، يقول مثلاً:
وكشفتُ غيب الحور
أجنحةً وثقى
وجبرائيلها دانِ
اقرأ «غيابك» يا...
أبَيتُ
فهل سرّي المسيح؟
هوى بصلباني!
وحضرتُ
لا ألوي على وجعٍ خوفاً،
ويصخب فيّ أمنانِ
من لي بآية تينها،
فدمي -يوماً- حَباها حقلَ قرآنِ
فقد قسّم هذه القصيدة العمودية تقسيماً استقل به كل سطر بمعنى العبارة التي يحملها.
إن كتابة الشعر العمودي في أسطر كما تكتب التفعيلة نوعٌ من التجديد الكتابي كما سماه الدكتور بدوي طبانة، وهو هرَب من تقليدية الكتابة التي تدل على نزعة الشاعر العربي إلى التجديد أبداً. وكتابة الشعر بنوعيه: العمودي والتفعيلة مقسَّماً بحسب معاني الجمل الجزئية، هو في نظري تقسيم يخدم النص، ويجعل حضور الدلالات أكثر وهجاً في ذهن القارئ، كما رأينا في كتابة (وحيدا) و(وحدي) مفردةً كل كلمة منهما في سطر عند إبراهيم الرواحي.
- د. سعود بن سليمان اليوسف