لا أدري هل التجارب الحياتية والمشاهدات اليومية فقدت نكهتها مقارنة بتلك التي كنا نعيشها في الماضي، أم أن ذلك يأتي في إطار الظنون والانسياق حول المقولة التي تقول: بأن الماضي أجمل وأحلى وأكثر سعادة، في أحايين كثيرة تأخذنا الذكريات إلى مواكب من السرور وقوافل الابتهاج بل أن الكثيرين حين يتحدثون عن أيامهم في الماضي تأخذهم نشوة الحديث في الاستطراد لتفاصيل صغيرة،
وينثرون المواقف كنوع من الرغبة للعودة للماضي رغم قسوة الحياة أنذك، ما الذي يدفع - خصوصا كبار السن – للاستمتاع بالماضي في طريقة المعيشة أو الممارسات اليومية البسيطة سواء في الحقل أو السوق أو المدرسة، هل لأننا نعيش زمنا صاخبا مليئا بالأحداث التي لا نستطيع التناغم معها؟ ولا تنسجم هي مع أذواقنا، هل أضحت الأشياء كالورود البلاستيكية؟ لا رائحة لها، هل نحن محقون في هذا التصور؟ أم أن الذكرى تظل جميلة وممتعة؟ سواء كانت وقتها مبهجة أو حتى مريرة، تواردت تلك الخواطر عن الفارق بين ذكريات الماضي المفعم بالبساطة وبين ما نعيشه حاليا والمليء بالصخب، أذكر أن الطلاب في قرى سراة الباحة كانوا يعانون من سفر يومي بين منازلهم وصولا إلى مدارسهم والتي تبعد بما يزيد عن خمسة أكيال مشيا على الأقدام مرورا بجداول وشعاب ومصاطب زراعية، ويتمكنون من الوصول قبل أن يطلق مراقب المدرسة الصافرة إيذانا ببدء الاصطفاف الصباحي، والمعاناة تتمثل في المشي في أجواء شديدة البرودة كثيفة الضباب، غزيرة الأمطار، مما تبتل ملابسهم ليجلسوا على مقاعد الدراسة وأجسادهم ترتجف من شدة البرد، وفوق ذلك تجدهم منصتين لشرح المعلم، حريصين على أداء الواجب المنزلي، وفي وقت الفسحة يسدون رمق جوعهم بكسرة صغيرة من الخبز الحاف، ورغم تلك الصعوبات التي يعاني منها الطلاب إلا أن لا أحد يشتكى من ظرف مناخي، أو بعد جغرافي، أو قلة في الزاد، أو جفاف التعامل من بعض المعلمين، وينتهي العام الدراسي ليستلم كل طالب شهادته سواء بالنجاح أو الرسوب، ليأتي الصيف ويستمر عناء العمل وكدح الحياة بمساندة الأسرة في فلاحة الأرض أو رعي الأغنام أو أي عمل يسند إليهم، ورغم تلك المعاناة إلا أن الكثيرين الذين عاشوا في تلك الفترة يقولون إن الحياة في الماضي أجمل وأسعد فليس هناك وزارة للسعادة وليس من مغريات إلا أن الناس يعيشون حياتهم البسيطة جدا، متساوين في نوع الغذاء والمسكن والملبس.
ومن الأيام التي رسخت في الذاكرة كوشم أبيض أيام المهرجانات المدرسية التي تقام في يوم من العام الدراسي يشارك الطلاب في أداء التمارين السويدية والاستعراض أمام المسؤول الأول في المنطقة والحاضرين من أولياء أمور الطلاب، حيث تتناغم حركات الأطراف مشكلّة لوحات متنوعة، وعادة تكون مصحوبة بموسيقى لشد الانتباه وإضفاء متعة للحضور، وفي مساء اليوم نفسه يُفتح الستار عن المسرح المدرسي ليقدم الطلاب مسرحيات ومشاهد تمثيلية مع إلقاء كلمات خطابية وهي امتداد للجانب التربوي، تحفيزاً للقيم الإيجابية كالصدق والأمانة وغيرها، ونبذا للسلوك السلبي من كذب وخيانة وحسد وغيرها، وتستهوي الطلاب سماع مكبرات الصوت و رؤية الأضواء الملونة، حيث إن الكثير من القرى وقتها تفتقر لخدمة الكهرباء فما زال الأتريك سيد المساء بفتيلته البيضاء والتي لا تسلم من مداهمة الفراشات الهائمة لتترك ظلمة حالكة في أرجاء المنزل تدفع بأفراد الأسرة الاتجاه إلى فراش النوم، والقليل من القرى كانت تنعم بخدمة الكهرباء عن طريق شركات أهلية تنطفئ في الثلث الأول من الليل، ما زالت تلك المهرجانات راسخة في الذاكرة كنقش جميل وحين يجلس أشخاص مرّوا بهذه التجربة تهفو قلوبهم وأسماعهم إلى سرد الحكايات عنها، ويرون أن الماضي البسيط، هو الأجمل رغم التفاوت الكبير بين ما يحدث الآن، وبين ما كان في الماضي، هنا يقفز سؤال ملح هل بالفعل الماضي هو الأجمل والأكثر سعادة؟ أم أن الظن هو الذي يقنع العقل الباطني ليُصدّق؟ سؤال إجابته محيرة بالفعل! ولربما لا يدرك الجيل الحالي بأن الكثيرين من الطلاب كانوا يجمعون مصروفهم الشهري بالكامل لذلك اليوم المشهود ليذهب إلى مطعم شعبي ليتناول وجبة الأرز السادة بعد انتهاء حفل المساء، وبعضهم يعودون إلى منازلهم ليلا، وقد طواهم الجوع قاطعا الجداول المائية ليستعد في فجر اليوم الذي يليه العودة إلى ذات المدرسة، يتشظى سؤال آخر هل يمكن للإنسان أن يصنع السعادة؟ أم أنها كالفراشات الملونة تحط على بعض الأزهار؟ التي تريدها بمعنى أن من الاستحالة أن تقرر لنفسك السعادة، وإذا قررت يعني أنك واهم، السعادة ليست بكثرة المال، أو الجاه، أو كثرة الأبناء، السعادة شيء لا نستطيع تفسيره، إلا أننا نحسها ونستمتع بها، وهذا ما كان يحدث في الماضي، وينحسر حاليا، لأسباب يصعب تعليله، مثل صعوبة التنبؤ بأشياء قد تحدث مستقبلا.
وادي قوب العظيم خصب بالذكريات مثل ما هو خصب بإنتاج الحنطة والذرة والعنب والتين ذلك الوادي الذي مر منه الشعراء والفرسان والبسطاء في معيشتهم اليومية.
سنتابع في سرد البهاء القروي...
- جمعان الكرت