كونوا صداقات وجدانية واستنطقوها عبر منجزاتهم وأثاروا التساؤلات ">
كتب - عبدالعظيم شلي:
أقيم في آخر ليلة من ليال المعرض السادس عشر لجماعة الفن التشكيلي بالقطيف، أمسية فنية، قدمها الفنان البحريني علي ميرزا متحدثا عن تجربته التشكيلية، خصوصا أطروحاته المفاهيمية، من ضمنها أن الفنان حسين المصوف أول من قدم عمل مفاهيمي في معارض الجماعة سنة 2007م.
في اليوم التالي رحت أفتش عن كتيبات المعارض السابقة، اقلبها بين صمت وهمهمة،والسؤال يشغلني من بدأ بطرح أول عرض مفاهيمي؟.
قادني بحثي بأن أول عرض مفاهيمي بأن الفنان علي ابوعبدالله هو من قدم تجربة مبكرة، لم توثق في كتيب، عدت بالذاكرة لماهية العمل بوصفه المحاولة التحضيرية الأولى، بالفعل قدم الفنان عملا جريئا على الرغم من بساطته المتناهية وسرعة إنجازه ويطلق عليه تجاوزا بالسهل الممتنع، عمل أثار لغطا ليس لزوار المعرض بل بين الفنانين المشاركين أنفسهم، قسم مؤيد وآخر معارض! وأقيمت جلسة حوارية جلها انصب على هذا العمل الذي أحدث جدلا على هامش المعرض الجماعي الرابع سنة 99م، ويتكون هذا العمل من ثلاث لوحات بمقاس 120× 3م مقسمين إلى ثلاثة الوان صريحة من الأقمشة (أسود، برتقالي، أصفر) ملقاة أمامها أرضا (مخمل أسود) تدوسه أرجل العابرين، يشق ظلامه قطعة من (الشامواه) صفراء اللون، تباين لوني وملمس ناعم يكمن رمزيا في انعطاف أخلاقي بين العفاف والانحلال.
وبعد أربع سنوات من ذلك العمل ارتحل الفنان زمان جاسم لباريس مقيم لثلاثة أشهر في مدينة الفنون فاكتسب خبرة واسعة انعكست على أدائه فنيا ومن ضمنها منجزه الأول الذي أعده خصيصا للمعرض الجماعي التاسع 2004م تحت عنوان (الجسد) عمل ذو بنية تكوينية فنية عالية وهو الأكثر ارتباطا بالفن المفاهيمي وفلسفته.
إنشاء تركيبي تداخلت فيه أكثر من خامة (خيش، شبك، معاجين، أقمشة قديمة)، عمل شغلت كتلته المنتصبة حيزا من أرضية مقدمة المعرض، مع تلاوين تجريدية على الكنفاس، معلقة على الجدار، تقابلها في الجهة الأخرى، مجموعة كراة مبعثرة، ويتوسطهما الجدار الأوسط بقطع مجسمة على شكل عصي مترادفة بإيقاع منتظم.
العمل قائم على فكرة الإيحاءات (الإيروتيكية) المضمرة شكلا، والمتواشجة ضمن صيرورة الحياة كعلاقة مستدامة بين الكائنات الحية، ويأتي ضمن بنيوية العمل الإنشائية، محاولة استعادة الموروث المادي عبر تقطيع الأقمشة التراثية وزجها كولاجيا في نسيج اللوحة الجدارية، هذا العمل يعتبر باكورة الأعمال المفاهيمية في معارض الجماعة وأيضا يعد من الإرهاصات الأولى على مستوى المملكة في هذا المجال، ومن هذه التجربة استمد الفنان روح العمل، باشتغالات مضافة وأخرى مختصرة، كتلة وحجما، واحد ارتحل لمسابقة الأحساء والثاني في الرياض ( مسابقة الباحة)، وكلاهما حقق جائزتين منفصلتين.
هذا التنويه لزم إبرازه وإيضاحه لدقة مسيرة تاريخنا التشكيلي، بالنسبة لعمل الفنان حسين المصوف، المميز أتى فيما بعد مع تأكيد أسبقيته لاستخدام الصورة المتحركة (الفيديو)، إذ يعد طرح المصوف لافتا، لأنه يقدم رسالة تساؤلية عن تلك الوجوه الخزفية المشوهة، المعجونة من طين الأرض، عمل يترادف عرضه في مكانين مختلفين بنظرة محيرة،فقد عمد الفنان، بتكويمه داخل غرفة معتمة، ينبثق من جدرانها فيلم قصير يتكرر كل دقيقتين لذات الوجوه ملقاة أرضا في لهيب الصحراء، تصاحبه مؤثرات موسيقية تزيد من وحشة المشهد، هذا العمل لم ينته بانتهاء عرضه في إحدى صالات المركز، وهو العرض الفعلي لمعرض الشباب، المصاحب للمعرض العام، وذلك بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس الجماعة.
عمل أثار حفيظة بعض طلبة الماجستير في جامعة الملك سعود حيث قدموا دراسات حول بنيته التكوينية والمضمونية، مستفيضين جوانبه الفنية، بعدها قدم الفنان عملا آخر في المعرض الرابع عشر، عوامات بحرية صغيرة الحجم متدلية على الجدار على شكل مثلثات هرمية، ملونة باقترابات ضمنية لكل ما يطفو على سطح البحر من زبد وشوائب، برمزية استعارية.
وقد تزامن عرض حسين المصوف الأولى في معرض الشباب عمل للفنان كميل المصلي، وهو عبارة عن ثلاث قطع منفذة بخامات متعددة ( شبك وجبس وكرتون ومعاجين) وكل قطعة ذات تضاريس بيضاء يخترق الأولى فتحتان مربعتان والثانية مستطيلان والأخيرة بيضاوي، عمل يركز على العلاقة بين الفراغ كمساحة مرئية نجول في سطحها حينا وبين غوامض الفتحات كجزء مستور يكتنف كل حياة منا لانريد الإفصاح عنه، مراوحة ذاتية مخفية وأخرى معلنة، وللفنان كميل أعمال استكمالية بمساحات أكبر تصب في إطار هذا المنحى و ذات الرؤية، قدمها ضمن معارض جماعية في الرياض وجدة.
وفي المعرض الحادي عشر عرضت الفنانة غادة الحسن عملا مفاهيميا بعنوان (السقوط) سنة2010م، وهو يتكون من (سكلة بناء حديدية) تتوسطها جمجمة جبسية ملونة، تخترق الأسطح السبعة المشدودة من رولة أكياس النايلون على شكل طبقات، بأرضية تبرز منها مجموعة مسامير، في انتظار الجمجمة، بدلالة رمزية، تحمل انحطاط الإنسان في مهاوي الردى، هذا العمل بما حوى من تساؤلات أجرت عليه الفنانة بعد انتهاء عرضه الأول عدة تعديلات واشتركت به في مسابقة معرض (ميديا) التي نظمته وزارة الثقافة والإعلام، وحاز على المركز الثالث، وللفنانة عمل آخر المسمى (الفزاعة) وهو (خيال المآته) الذي كان يستقبل زوار معرضها الشخصي الأول على صالة مركز الخدمة الإجتماعية، سنة 2009م، عمل يفزع طيور الأسى المحلقة على رؤوسنا وهما، بين تقلبات الحياة.
ثم تلتها الفنانة (زهرة المتروك) سنة 2010م حينما عرضت لوحاتها الإحدى عشر بطريقة غرائبية، ملقاة على صناديق على هيئة توابيت ! موزعين على أرضية الصالة، يكملهم قبر مرسوم بالرمل تتقاطع فيه خطوط أفقية وعمودية على شكل نوافذ يتوسطهم قدر قديم استهلك من طبخ المواسم لأزمنة الأولين، حمل هذا المعرض المفاهيمي (الجدة مريم).
وثمة عمل مفاهيمي تركيبي للفنانة مهدية آل طالب أنجزته في 2009 م عرضته خارج القطيف ولم يكن ضمن معارض الجماعة، وهو بعنوان (الأقنعة). ينبرئ عمل الفنانة مهدية آل طالب بصمت ملتبس ويشي بالتوجس والقلق لإيقاع الأقنعة، مختلفة الحجوم ذات الصبغة الرمادية واللون محمل بدلالة رمزية غامضة، عمل يخاطبنا دون مواربة، موجه لكل ناظر اليه !وكأن لسان حال يقول، كم من الأقنعة نتخفى وراءها، فكل منا له قناع يتستر خلفه ؟ ومن الصعوبة أن نظهر كل ما نبطن، عمل يلقي الأسئلة دون صخب، بوح، وهمس، ومراجعة للذات الإنسانية.
ويوجهنا الفنان محمد المصلي بعمله الإشكالي الذي كاد أن لايعرض بسبب اجتهاد القيمين على تنظيم وتنسيق المعرض الثالث عشر، خشية التأويل بأبعاد ظرفية، عمل مفاهيمي قوامه رجل مكفن بلفافات قماشية كأنه مومياء محنطة، تداخلت خامات عدة (الخيش، سلك، شبك، كرتون، معاجين) في تشكيل هيئته. وهو تكرار لنسخة مشابهة لعمله الفائز في مسابقة (معرض أضرار المخدرات) لوزارة الداخلية بالرياض، عام 2007م، وقد حقق الفنان المركز الأول تحت عنوان (نهاية شاب)، وقدم المصلي في المعرض الرابع عشر، عمل آخر في غاية البساطة والتكوين وبنفس أدوات الخامة، يمثل قطعة بيضاء متعرجة التضاريس تخترقها كوة غائرة معتمة، بدلالة التناقض بين المعلوم و المجهول.
هذه الأطروحات المفاهيمية تخللتها أمسيتان فنيتان يفصلهما فارق زمني بينهما وهما للدكتور / صالح الزاير حول الفن المفاهيمي على مستوى التشكيل العالمي المعاصر، أمسية واحدة في المسرح والأخرى في صالة المركز وكانتا متزامنتان للمعارض الجماعية، بالإضافة لأمسية رمضانية على مسرح المركز للفنان (عبدالناصر غارم) الذي تحدث عن تجربته المفاهيمية.
ونجول في معرض (أوراق) لدلال الجارودي، فتأخذنا لسؤال وجودي عن شجرتها الجرداء المأخوذة من حقل يحتضر؟ وخلفها منظر فوتوغرافي مكبر لمشهد زراعي مهجور، من تصوير عدسة زوجها، أحزان شجرة تتساقط أوراقها اليابسة تلو الأخرى، وترتمي بالتفاف دائري، تناجيها عن قرب ورقتان بطول الشخص الواحد وأكثر، تتدليان من سقف الصالة دون أن تلامسا الأرض، تقترب من كومة أوراق طبيعية لكنها يابسة، ومطعمتان بقصائد شعرية ترثي حال كل الأوراق بين الحياة والفناء، تجربة مفاهيمية حطت بعض منها في معرض جدة (الأرض وما بعد ذلك).
وفي العام الماضي خلال المعرض الخامس عشر، قدم عمل مفاهيمي مبسط في الطرح، تقاطعت فيه مجالات فنية مختلفة، فقد قدمت الفنانة هدى القطري مجموعة جرار فخارية معتقة ومتنوعة الأشكال والأحجام، منثورة على تلة من رمال البحر، مع خلفية ساحلية لسفينة صيد جاثمة على الشاطىء، وهي صورة مكبرة للفوتوغرافي / يوسف المسعود مع قصيدة شعرية حية في يوم الافتتاح للشاعر الفنان/ حبيب المعاتيق، مستوحاة من فيض ذاكرة البيئة المحلية، هذا العمل المفاهيمي تراجعت عنه الموسيقى التصويرية لآلة الكمان للعازف/ شكري عاشور، الذي كان مقررا أن يواكب المشهد.
وفي هذا العام، جاءنا العمل المبهر للفنان زمان بعنوان (ريحة هلي)، عمل يعد تجربة نوعية على مستوى العروض المفاهيمية، فعنوانه انعكاس لحالة تنفيذه، تسمية تطرب الوجدان وتثير في القلب الحنين والشجن واللهفة لكل الأحبة، باعتزاز فطري يسكن فينا طول العمر، عمل أراده زمان نوذجا استاطيقيا لكنه نابضا بقيم الأصالة والمعاصرة، في قالب جديد، يحمل هوية المكان برؤية جماعية، فقد وظف مجالات عدة في بنيته وتركيبته الفنية، (الشاعر، والمصور الفوتوغرافي، والفيديو، والخطاط، والمؤثرات الموسيقية)، وجعلها تنبثق من صحنين محدبين بحجم كبير من خامة (الفايبر جلاس) وبسطح مليء ب النتوءات الملونة تعلوها زخرفة مفرغة، مشهد بصري سمعي يجذب الذائقة بصوت شعري شعبي حواري بين رجل وامرأة كحالة عشق إنسانية تفيض بعبق الأمكنة ومجد الأزمنة، وقد استقطب هذا المشهد المفاهيمي مختلف شرائح الزائرين، والمعروض داخل نطاق غرفة مظلمة أعدت واجهتها لهذا العمل، توليفة آسرة أخرجت لنا عملا لا تنساه الذاكرة.
وقبل الختام، أحب أن أشير لالتماع فكرة أي مشروع مفاهيمي، دون الرجوع للفنان ذاته، فلن توهب الومضات جزافا، ولن يأتي شيء من لاشيء، فانشغال العقل بالبحث باستمرار وتغذية الذائقة الفنية بالمشاهدات من هنا وهناك، ستتولد الأفكار، قال ( الجاحظ / المعاني ملقاة على قارعة الطريق). وهي ملك للجميع، لكن وحدهم المبدعون يلمحون أشياء لايراها الآخرون! فجميع من اثروا الساحة بعطاءاتهم المعبرة مفاهيميا، كونوا صداقات وجدانية مع تلك الأشياء، واستنطقوها عبر منجزاتهم الفنية.
الفنان علي ابوعبدالله من مهد لقراءة للمشهد المفاهيمي بالخروج من أطر اللوحة المسندية، والفنان زمان جاسم هو مفتتح الحكاية ثائرا على اللوحة بعروضها التقليدية، رافعا الصوت عاليا وقد سردها من أتى من بعده، وقص أحداثها في المعرض السادس عشر، ولازالت فصولها ستفاجئنا جماليا من قبل فنانينا وفناناتنا مستقبلا، هذا ما أرجوه مخلصا.