د. هلال محمد العسكر ">
تنفق الدولة -أيدها الله ونصرها- بسخاء على التدريب، بهدف تأهيل أبنائها وتسليحهم بمهارات العمل، وذلك منذ تأسيس المملكة وحتى اليوم، انطلاقا من إيمانها أن الإنسان هو أعظم ثروة وأهم عمل تنموي تقوم به أمه من الأمم، ولكن العوائد من ذلك مقابل كل هذا الإنفاق، أقل بكثير مما هو متوقع.
إذ إن التدريب في المملكة يعاني مشاكل عدة؛ إدارية وتنظيمية، وإجرائية، وتمويلية وتخطيطية، وتنفيذية، وتقويمية.. الخ؛ فالمستفيدون من سوق عمل ومتدربين يشتكون، المنفذون يشتكون، المدربون يشتكون، المستثمرون يشتكون، وحتى الجهات المعنية بالإشراف على التدريب وتنظيمه تشتكي، التحديات التي يواجهها التدريب لم تعد بحاجة إلى شرح طويل، حيث أصبح الكل يعرفها تمام المعرفة، ولا يريد إلا أن يسمع عن الحل الأنسب للخروح من عنق الزجاجة التي اختنق فيها التدريب ومعه المجتمع.
لدينا آمال عريضة ينتظرها المواطن من دولته، وأيضا تنتظرها الدولة من أبنائها الذين ترى فيهم طاقة ديناميكية تكونها أو تشكلها مؤسساتها التدريبية، وفق ما ترجوه من طموحات وتطلعات نحو اللحاق بالأمم المتقدمة، لذلك نطرح رؤيتنا بهدف الإسهام في حل مشكلة التدريب، والمساعدة على معالجة التشوهات الكبيرة والكثيرة التي يشهدها سوق العمل، والتي أفرزت ملايين العمالة الوافدة، وبطالة تؤرق المواطن واقتصاد الوطن وتعوق طموحاته وتنميته وتحولاته، وغيرها من التشوهات التي يعانيها السوق، ويكمن الحل -كما نراه- في إقرار إستراتيجية وطنية محددة وواضحة المعالم ترتكز على الأسس التالية:
- إصلاح سوق العمل والقضاء على التشوهات التي تعطل آلياته.
- إصلاح التعليم، لكي تكون مخرجات المؤسسات التعليمية ملائمة لسوق العمل.
- دمج التدريب الإداري بمعهد الإدارة العامة، والتدريب المالي بالمعهد المصرفي تحت مسمى (معهد التنمية الإدارية والمالية) وخصخصته، والتوسع في نشر فروع له في جميع مناطق المملكة، مع إلغاء البرامج الإعدادية، نظرا لكونها تقدم في الجامعات، وقصر برامج المعهد على برامج التدريب الخاصة سواء للقطاع الحكومي (مجانا) أو القطاع الأهلي (برسوم) والتي لا تزيد مدتها عن السنة، وتكون في مواقع العمل، هذا بالإضافة إلى دوره في تقديم الاستشارات الإدارية والمالية -التنظيمية والإجرائية- والبحوث والدراسات التطبيقية الموجهة للعمل الإداري والمالي.بالمملكة. وكذلك إخضاع مراكز التدريب الإدارية والمالية (الأهلية) لإشراف المعهد.
- دمج برامج المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني (المعاهد الفنية) للتعليم العام، لتمكين طلاب التعليم العام من التهيؤ لسوق العمل، وضم برامج المؤسسة في الكليات والمعاهد العليا (برامج فوق الثانوي) للتعليم الجامعي، لتمكين الطلاب من مواصلة دراستهم العليا في برامج التعليم التطبيقي التقني، وحصر نشاط المؤسسة في برامج التدريب المهني في الورش والمعامل والمختبرات (مراكز تدريب مهني) والبرامج التي تتراوح ممدها أقل من سنة. مع التوسع في نشر هذه المراكز التدريبية في جميع أنحاء المملكة، لأن التدريب المهني هو الأساس والركيزة التي يعتمد على مخرجاتها سوق العمل الصناعي، وفيه الحل لتوطين الوظائف، والاستغناء عن عشرات الملايين من العمالة الوافدة. وكذلك إخضاع مراكز التدريب المهني (الأهلية) لإشراف المؤسسة.
- إنشاء هيئة وطنية عليا للتدريب؛ جهة مرجعية تشرف على تنظيم التدريب وتوجيهه، تحت مظلة المجلس الأعلى للاقتصاد والتنمية.
- إعادة تحديث أنظمة وزارة الخدمة المدنية، ووزارة العمل، بما يتواءم ومتطلبات المرحلة وما ستشهده من تحولات.
- إلغاء احتساب نقاط التدريب لأغراض الترقية، ويكتفى لذلك بتقويم الأداء والسلوك الوظيفي.
- ترشيد الإنفاق على التدريب، وتعظيم عوائده، وتحديثه وتطويره من خلال تصميم برامج تدريبية بديلة عن البرامج التقليدية السائدة، والتي يغلب عليها الجانب النظيري أو التطبيقي المختلف عن ما هو موجود ومطلوب لسوق العمل، ومن هذه البرامج البديلة نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر: برامج التدريب الإنتاجي، التدريب التحويلي، التدريب البيني (التبادلي)، التدريب التعريفي للموظف المستجد، التدريب على رأس العمل، التدريب بالزيارات وتبادل الخبرات، التدريب المبرمج عن بعد كالأفلام ونحوها، التدريب من خلال الأدلة التشغيلية والإرشادية، تدريب الأقران، وغيرها من بدائل لا تتطلب إنفاقا كبيرا على التدريب، ولها عوائد أفضل وأكثر.
ختاما، إن التنمية البشرية والحضارية لا تقاس بعدد المدارس والمعاهد والكليات والجامعات، تلك التي تقام في بلدنا، كما أنها لا تقاس بنسبة ما يخصص أو يرصد لها من مبالغ في ميزانية الدولة، ولا بنسبة عدد المتخرجين ممن يحملون الشهادات العليا، إذ أنه ليس لهذه الأرقام أية دلالة اللهم إلا إذا تصدرتها مؤشرات الخبرة الفعلية المعززة بالأداء الفعلي، لأن الشهادات التي تقوم على غير ذلك تكون هشة القوام ضعيفة البناء الفكري والتكوين الذي يستجيب لمتطلبات التنمية الإنتاجية، إذ أن الأعمال بنتائجها وما يتحقق من أهدافها؛ الأمر الذي وعته اليابان في يقظتها ومسيرتها التنموية هو التنمية البشرية، هذا الشعور الذي التزم به الشعب الياباني وقادة التربية والتعليم، حيث وجدوا في التعليم والتدريب أمرا لا مفر منه من أجل التطور، فأعدوا له جميع مقوماتها فيما ندعوه بالمؤسسات التربوية والتعليمية مراكز التدريب. والتزموا بقواعد سلوكية ثابتة طبقوها على جميع أبنائهم المتعلمين وهم في مرحلة التنشئة والتكوين، ومن ثم وهم على رأس أعمالهم في ميدان التطبيق والعمل البناء.