يدور الجدال بين المهنيين في كل مرة تظهر فيها فضيحة مالية حيال الدور الغائب للمراجعين الداخليين والخارجيين في تفادي وقوع مثل هذه الكوارث. وها نحن أمام فضيحة محاسبية أخرى دوى صداها لشركة Toshiba والتي أقرت بتضخيم نتائجها المالية عن الفترة من 2008م وحتى 2014م بقيمة تزيد على 230 مليار ين بهدف تحويل القطاعات الخاسرة إلى قطاعات رابحة.
وككل مرة، يتساءل البعض عن سبب غياب دور المراجعين في منع وقوع مثل هذه الحوادث. والواقع أن الإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف كل حالة على حدة إلا أن غياب الاستقلال الحقيقي للمراجع الخارجي والداخلي عن نفوذ مجالس الإدارات، ومن باب أولى نفوذ أصحاب المنشآت في المؤسسات والشركات العائلية يُعتبر عاملاً رئيساً ويساهم في تكرر هذه الفضائح المالية محلياً وعالمياً بالرغم من سنّ الأنظمة والقيود والعقوبات.
وبالرجوع إلى تاريخ بدء الطلب على خدمات المراجعة، نجد أنه قد ابتدأ متزامناً مع انتشار تأسيس الشركات المساهمة العامة في أوروبا والتي انفصلت فيها ملكية الشركة عن مجلس إدارتها (نظرية الوكالة) حيث ظهرت الحاجة لتعيين جهة مستقلة تراقب الحسابات لحماية حقوق المساهمين.
ومفهوم الاستقلال آنذاك اقتصر على التأكد من كون المحاسب القانوني مستقلاً عن نفوذ مجلس الإدارة لضمان عدم التأثير على رأيه في القوائم المالية.
وعلى الرغم من أنه نظرياً، يمكن تطبيق مفهوم الاستقلال نظراً لانفصال الملكية عن الإدارة (لوجود ثلاث جهات، الجمعية، مجلس الإدارة، ومراقب الحسابات) إلا أنه بات من الواضح عدم انطباق نظرية الوكالة على غالب أشكال المنشآت المعاصرة. فلدينا على سبيل المثال المؤسسات التي تُدار من ملاّكها، والشركات العائلية التي تُدار من أصحابها، والشركات المساهمة التي تُدار من مجلس إدارة لديه وكالات عن أكثرية من المساهمين بالصورة التي تجعل هذا المجلس فعلياً هو من يمارس صلاحيات الجمعية العمومية ويعبر عن رأيها.
وبناء على ما سبق، كيف يمكن تطبيق مفهوم الاستقلال هذا في ظل وجود طرفين؟.. وبمعنى آخر.. استقلال من؟ عن من؟ ليقدم تقريره إلى من؟
وأذكر أنني اطلعت على بحث علمي بعنوان «The myth of auditor independence» والذي توصل فيه الباحث إلى أن مفهوم الاستقلال الوارد في المعايير بات أشبه بالخرافة.
وسبب ذلك، أن معايير المراجعة السعودية أو الدولية ألبست - ببساطة - المحاسب القانوني عباءة القاضي «المستقل» ونسيت أن هذا القاضي «المستقل» هو قاضٍ» مأجور».. أو بلغة أكثر معاصرة «رجل أعمال».
وبالرغم من - أننا نحن المهنيين - لدينا مبدأً في المحاسبة يُسمى «مبدأ الحيطة والحذر» إلا أن رجال الأعمال في الواقع هم أكثر حذراً منا حينما يتعلق الأمر بالاعتماد على تقاريرنا المالية، فهم يعلمون تماماً أن أسهل مهمة إدارية لهم هي التعاقد مع مراجع «لطيف» للحصول على تقرير «نظيف.»
وحينما يتعلق الأمر بإبرام صفقة لشراء أسهم أو حصص في شركة ما، نجد أن كثيراً من رجال الأعمال لا يعيرون اهتماماً للقوائم المالية المدققة بقدر اهتمامهم بالبيانات والمعلومات التي يجمعونها من مصادرهم الخاصة والتي تلعب دوراً جوهرياً في قرارهم المتعلق بقبول هذه الفرصة الاستثمارية من عدمها، بل إن بعضهم قد يلجأ للتعاقد مع مراجع حسابات من طرفه للتحقق من صحة القوائم المالية للشركة بالرغم من كونها مدققة بواسطة مراجع يُقال عنه إنه «مستقل»!
وبطبيعة الحال فإن موهبة المستثمر أو التاجر الناجح تجعله قادراً - في كثير من الأحيان - على التمييز بين البيانات والتقارير التي يمكن الاعتماد عليها من تلك البيانات والتقارير المتحيزة.كيف لا؟.. وواقع خبرتهم يؤكد لهم انتشار خضوع التقارير المالية لعمليات التجميل وتمارين الرشاقة نتيجة لضغوط سواء تمويلية أو لتغطية فشل إداري أو حتى هروب من أعباء ضريبية أو زكوية.
وخلافاً للمهن الأخرى مثل الهندسة والطب والمحاماة والتي غالباً ما تتواطأ فيها مصلحة المهني مع عميله، نجد أن المصالح دائماً تتعارض عندما يتعلق الأمر بالمراجعة، فعلى سبيل المثال - نجد أنه لا يوجد ما يمنع المريض من تلقي أفضل الخدمات من طبيبه بل إن كلا الطرفين يبحثان عن الجودة، في حين أن غاية ما يطلبه غالب عملاء «المراجعة» هو الحصول على شهادة «نظيفة» بأقل الأسعار الممكنة دون النظر إلى جودة هذه الخدمة، وبطبيعة الحال، فإنه في ظل ضعف الرقابة على الجودة، وتحت ضغوط العملاء والمكاتب المنافسة على حد سواء، يجد المراجع نفسه مضطراً إما لتقديم بعض التنازلات للبقاء في سوق خدمات المراجعة، أو تركه للمكاتب الأخرى في سوق لا يرحم.
وكنتيجة لاعتماد مكاتب المراجعة على عملائهم في تمويل مصاريفهم التشغيلية، ولوجود تعارض في المصالح، وفي ظل وجود منافسة حادة بين المكاتب للفوز بعملاء جدد، يفقد كثيرٌ من المحاسبين القانونيين استقلالهم بغض النظر عن حجم المكتب وسمعته طالما أن أتعاب المراجعة الخارجية تمثّل نصيب الأسد من إيرادات المكتب.
أما فيما يخص المكاتب الجديدة.. فلا تسأل عن مدى الابتزاز الذي تتعرض له تلك المكاتب من عملائها.. ولا أعتقد أنه يوجد أحد من المهنيين يجادل في غياب استقلالية المكاتب الجديدة وخصوصا في بداياتها. وبالرغم من ذلك، فلا يوجد فرق بين مكتب كبير أو صغير إذا تعلق الأمر بالاستقلالية، والسبب في ذلك أنه حتى لو استطاع مكتب «ما» فرد عضلاته على أحد عملائه الصغار.. فستنهار قواه أمام عميل آخر له أهمية نسبية. (يُستثنى من ذلك المكاتب التي تعتمد في دخلها بصورة رئيسة على إيرادات الاستشارات والقضايا).
بقي أن نقول بأن الحل لفقدان استقلالية المراجع - على المدى الطويل - هو إخضاع مراجع الحسابات لهيمنة المستفيد الحقيقي من خدمات المراجعة بالقدر الذي يعطل قدرة إدارة المنشأة عن التأثير في استقلالية مراجع الحسابات.
فعلى سبيل المثال: تُعتبر مصلحة الزكاة والدخل أحد المستفيدين الرئيسين من خدمات مراجعي الحسابات، ولا جدال أن من مصلحتها رفع جودة خدمات المراجعة، لذلك فإنه حينما يتم منح مصلحة الزكاة والدخل الحق في تصنيف المحاسبين بناء على معايير معلنة، سوف يترتب على ذلك توجه اهتمام كافة المكاتب لرفع جودتها طمعاً لرفع تصنيفها. وكنتيجة لذلك، سيبدأ - تدريجياً - انفكاك مراجعي الحسابات عن تبعيتهم للعملاء، وبالتالي تحقق استقلاليتهم نظراً لدخول عوامل أخرى مؤثرة في توزيع الحصص السوقية.
وقد تحدثت سابقاً عن مشروع تصنيف المحاسبين القانونيين في مقال عنوانه: «تصنيف المحاسبين القانونيين.. حلم هل يتحقق؟» والمنشور في جريدة الجزيرة عدد 14869 بتاريخ 05 شعبان 1434هـ يمكن للمهتمين الرجوع له.
خلاصة القول إن طبيعة وظروف التعاقد التي تتم بين مراجع الحسابات وعملائه بالإضافة إلى ظروف المنافسة الشديدة أحالت موضوع استقلال المراجع ليكون أشبه بالخرافة. ومما سيزيد الأمور تعقيداً، هو توجه وزارة التجارة وهيئة المحاسبين نحو تسهيل اختبارات الزمالة بغرض زيادة عدد المكاتب المرخصة في ظل عدم وجود هيئة مستقلة لفحص وتصنيف المحاسبين مع استمرار غياب الرقابة الذكية على جودة خدمات مكاتب المراجعة مما سيفاقم المشكلة بالتأكيد.
ولا شك أن هناك العديد من الأمور والإنجازات التي تدعو للتفاؤل، إلا أن أمانة السائق وجدية المسير لا تعني بالضرورة أن المسير نحو الاتجاه الصحيح، فطالما أن لجان فحص جودة مكاتب المحاسبة ليست معنية إلا بتطبيق العقوبات في ظل افتقارها لأدلة وإرشادات تفصيلية لتمييز الخط الفاصل بين ملف مراجعة «حقيقي» وآخر «شكلي». وبين إجراء «كافٍ» وآخر «غير كافٍ»، وفي ظل غياب الاستقلال الحقيقي لغالبية مراجعي الحسابات، فلن تكون فضيحة توشيبا الأخيرة ضمن سلسلة الفضائح المحاسبية، وستستمر الأسواق المالية بإظهار فضائح مالية أخرى طالما أن العامل الحقيقي في زيادة أو خفض إيرادات مكاتب المحاسبة هم رجال الأعمال.
- طارق محمد الشباني
@tmash388