ياسر حجازي
ليس سرّاً أو ملاحظة صعبة الرؤية: أنّ العمليات الإرهابيّة التي نُفّذت في العاصمة البلجيكيّة بروكسل أعطت نقاطاً إضافيّة لخطاب ترامب المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكي، بل ولحقه في الخطاب عينه منافسه على ترشّح الحزب تيد كروز؛ وهما على بعد خطوات قليلة من احتمال استلام أقوى سلطة في العالم.
وليس سرّاً أو ملاحظة صعبة الرؤية: أنّ العمليات الإرهابيّة التي نُفّذت في أوروبا وتبنّتها حركات إسلاميّة - سياسيّة مسلّحة إنّما تخدم اليمين الأوروبي المنتشر في أكثر عواصم أوروبا: (الجبهة الوطني - فرنسا، حزب استقلال المملكة المتحدّة، حركة أوروبيون ضدّ أسلمة الغرب الألماني، حركة عصبة الشمال الإيطالية، حزب الحريّة النمساوي، حزب من أجل الحرية الهولندي.. وغيرهم)، وهم رغم ابتعادهم عن السلطة وعدم حصولهم على تأييد الأكثريّات الانتخابيّة، لكن ذلك يمكن أن يتغيّر تحت تهديدات الإرهاب؛ فإنَّ كان الناخب الأوروبي سابقاً لم ينقد وراء خطاب الوهم العنصري - الذي ينادي به اليمين الأوروبي المطالب بعودة الهويات والقوميّات ضدّ التعدّد والتعايش - فإنه اليوم معرّضا اضطرارياً أن ينتقل من جبهة إلى أخرى، في امتحان صعب وثقيل على الوعي، وهو يرى مشروعه الإِنساني والحضاري ووجوده أيضاً يتعرَّ لتهديدات وجوديّة مصيريّة على وقع ضربات الإرهاب ودمويته.
2
هدف الإرهاب إذاً، هو ضرب المشروع الإِنساني الغربي - الأوروبي الذي خرجَ من مقصلة الهويّات وربطَ المواطنة بالحرية الإِنسانيّة ضمن اشتراطات بعيدة عن العرق والديانة، هو ضرب هذا المشروع الذي يؤمن بحريّة الفرد، هو ضرب هذا المشروع الذي تحتّمَ على أوروبا أن تدفع ثمنه حربين متعاقبتين حتى ينتشر مبدأ حق تقرير مصير الشعوب، ومبدأ قوّة القانون أعلى من قانون القوّة. علم بذلك دُعاة الإرهاب وأتباعه أم لم يعلموا، فإنَّ طريقهم إذا ما قُدّر له أن يكون طويلاً ومكتملاً فإنه يفضي في نهايته إلى هذا الهدف الكارثي. أمّا ادّعاءات الانتقام فإنها مجرّد تبريرات رخيصة ساذجة لا يقبلها جاهل قبل العاقل.
- انتقامٌ مَنْ؟ ومِنْ مَنْ؟
الغايةُ من وراء الإرهاب: (دعم حركات اليمين العنصري الأوروبي، وإيقاظ الهويّة الأوروبية الاستناديّة إلى عرق ودين، عودة سلطة القوّة بوصفها فوق القانون والأخلاق والمواثيق والدبلوماسيات، شقّ التعايش التعدّدي، قطع العلاقات مع العالم العربي والإسلامي).
وأمام هذه الأهداف ما يمكن أن يحقّق أسباباً تساند الإرهاب في انتشاره وانتقاله من حالة الانتباذ إلى حالة القبول، من حالة الرفض إلى حالة الاستسلام والتسليم والإقرار بوجوده، وذلك لا يكون ضمن شروط العالم الحاليّة، لذلك يسعى الإرهاب طامعاً إلى تغيير شروط العالم؛ فبإمكان حصول اليمين الأوروبي على صناعة القرارات التشريعيّة وإدارة الحكومات التنفيذيّة أن يبرّر للإرهاب وسائله وخطابه: (إقصاء بإقصاء)، وبإمكان إيقاظ الهويّة الأوروبيّة وطرد العرب والمسلمين من أوروبا أو أي مكان في الغرب تبرير خطاب الإرهاب: (عنصريّة بعنصريّة)، وبإمكان عودة سلطة القوة فوق القانون والأخلاق والمواثيق أن تبرّر خطاب الإرهاب ووسائله: (عنف بعنف، وغدر بغدر).
الغاية إعادة أوروبا إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، قبل هذه النقطة التاريخيّة التي بعدها بدأ العالم يتنفّس قليلاً بالقوانين ويسمح بالتعدّد تحت أشكال ومضامين لم يعرفها التاريخ من قبل. وعلى الرغم من هذه النقطة التاريخيّة إلا أن رحلة أوروبا بالتحرّر من جميع الأوهام والعنصريّات لم تكتمل، إنّما التغيّر الكبير وقع حينما أصبح التعدّد والانفتاح والحريّة واللا - هويات واللا - عصبيات هي المنطق السياسي الحاكم في أوروبا، وله الغلبة دون صوت الأوهام والعنصريّة الذي فقد السلطة والقوّة والنفوذ، وفقدَ قدرته على تحريك الشعوب بعدما أودى بمقتل الملايين من أوروبا؛ لكنّه اليوم، وعلى ضعفه وهزالته إلا أنه يجد فرصة في عمليات اليمين الإسلامي المتطرّف ويتغذّى من ورائه لعلّه ينهض ويستعيد سلطته وقوته ونفوذه الشعبي؛ هذه أحلام اليمينين المتطرّفين: الإسلامي - السياسي والأوروبي.
بهذه العمليات الإرهابيّة تتّفق (اعتباطاً) أجندة الإرهاب مع أجندة الحركات المتطرّفة الأوروبيّة والغربيّة، وهي التي تزداد شعبيّتها بعد كل عملية، إِذْ يكفيها أن تتذرّع بهذه العمليات لتعمّم (العدو): «العدو ليس الفاعل إنما عرق الفاعل وديانة الفاعل» .
3
الإطار العام لعالم اليوم تحكمه القوانين والتعدّد والتعاون اقتصاديّاً، وطبيّاً، ورياضيّاً وفنيّاً وسياسياً، وحقول أخرى كثيرة لا تخلو الأسرة والطفل منها كقوانين ضابطة لأجل حقوق الإِنسان منذ ولادته. وظهر على هذا التطوّر المادي على أرض الواقع تزايد عدد الدول المستقلّة وعدد المنظمات الدولية التي تسعي لزيادة نفوذ واقعية التعدد والقانون، وبالتالي ازداد تقارب شعوب العالم، وليس صعباً الإقرار بهذا في المحافل الرياضيّة الدوليّة على شتّى أنواع الرياضة، والفنون، والموسيقى والسينما.. كل هذا ما كان ليكون بهذا الاتجاه والتوسع والانتشار لولا غلبة القانون والمعرفة والتعايش وإقرار التعدد وهزيمة العنصرية وما يحلق بها.
ما يريده الإرهاب اليوم هو إضعاف كلّ مسوّغات الذين يقفون في مواجهته داخلياً من العرب والمسلمين، فذلك أنّ بين العرب والمسلمين اليوم من اختار العلم على الوهم، والتعايش على الصراع، والسلم على العنف، والإِنسانية على الهوية، وأدرك جيداً قيمة أوروبا في صبرها بمواجهة هذه العمليات التي يتسبّب بها مسلمون - عرب تحتضنهم أوروبا في أراضيها بناءً على مبدأ القانون والتعايش ورفض حصر الهوية في عرق أو ديانة، فأوروبا حتّى الآن من الحكمة والصبر بأنّها تعي جيّداً هدف الإرهاب في إفساد مشروعها الإِنساني، وهي على حذر أن تقع في فخّ ردّة الفعل العنصريّة، ردّة الفعل التي لا تبقي أحداً، ردّة الفعل الذي يجعلها تتعامل مع الفاعل كعرق أو ديانة ثمّ تعمّم ردّة الفعل على كلّ من ينتمي لذات العرق والدين.
o ما أعظم حلم أوروبا وصبرها على العالم العربي حتّى الآن.
وهي على هذا الصبر والهدأة وحكمة ردّة الفعل ليس لأنّها استمعت لاستنكارات العالم العربي والإسلامي واقتنعت بتصريحات علماء مسلمين مسؤولين - في التصريح الشهير: (هؤلاء لا يمثّلون الإسلام)، فأوروبا تضبط أفعالها لأنّها تؤمن بمشروعها الإِنساني، لأنّها تؤمن بعلمانيّتها، لأنّها تؤمن بقانون المسؤولية الفردية.. أمّا التصريحات والاستنكارات فتبقى دون طموح أوروبا أو دون الفاعلية المطلوبة، لطالما أنّ المؤسسات الرسميّة تحمل تصوّرات دينيّة رسميّة في كثير من الأنظمة العربية والإسلاميّة لا تقدّم تصوّرات مختلفة ومغايرة ومعارضة لما تستند إليه داعش وأخواتها، لطالما كلاهما (التطرّف والاعتدال) يستندان إلى فهم إِنسانيّ وتصوّرات قديمة للمتون الدينيّة تجيز تصفية المخالف والمختلف، وتحرّض على التغيير بالقوّة، ولا تجيز التعدّد، ولا تعتمد العقل مرجعاً في أمور الدنيا، وتعلي من المسلمات ولا تسمح بمناقشتها.. إلى آخر المفاهيم التي بحاجة إلى إعادة ضبط على مستوى رسمي وليس على مستوى فكري فقط؛ وحتى ظهور هذا التصوّر رسميّاً فإنَّ أوروبا لها الفضل والحكمة في ضبط ردّة فعلها، لطالما لم ترجع إلى عهدها القديم حينما كانت تشنّ حروباً طاحنة على شعوب أو شعب بأكمله طمعاً في خيراته أو تحت أسباب تعميمية عنصرية.
4
دول أوروبا والغرب يحكمها القانون والعلم، وهم يسعون إلى زيادة نفوذ القانون والعلم في وعي الأوروبي والغربي على حساب إزاحة أوهام العنصريّة والإقصائيّة، ومحاصرة بقايا التطرّف الديني الأوروبي وبقايا عنصريّة الهويّات والقوميات، لكن ذلك، ورغم غلبة العلم والقانون والتعايش لا يعني أنهم قضوا على العنف والجريمة والعنصرية والوهم، وعلى ذلك، فإنَّ الإرهاب يراهن على هكذا انفجار، يراهن على دعم اليمين الأوروبي ومثيله في دول الغرب ليصل إلى البرلمانات الأوروبية ويعدّل من قوانين التعايش إلى قوانين القوميات والهويات والعصبيّة والعنصرية، وبالتالي، يراهن على تحويل الصراع بدلاً من حاله اليوم صراعاً بين فئة إرهابيّة ظلاميّة وبين العالم الإِنساني المتحضّر الذي يسعى للتقارب والتعدّد، إلى مواجهة بين إرهاب وإرهاب، بين عنف وعنف بين عرق وعرق وبين ديانة وديانة، بين توحّش ومثيله.
هذا هدف الإرهاب وأمله في البقاء والاستمرار وزيادة أتباعه وأنصاره، حينما يتحوّل الصراع ويكسب مشروعيّته على شيوع حالة العنف.
حينذاك تخيّيل أين تكون أكثريّة الجماهير الأوروبيّة، وأين تكون أكثريّة جماهير العرب والمسلمين!! حينذاك تحديداً أين يكون العلم والعقل والإِنسان؟
5
ما يستدعى الوقوف عنده طويلاً واستمرار استحضاره ومواجهته: أنّ هذا التحريض هدفه تحويل أوروبا إلى مارد متوحّش يدعس على مبدأ القانون الإِنساني الذي ألزم به نفسه منذ الحرب الثاني، حتى يكون الصراع بين كفّتين متساويتين في العنصريّة والإقصاء والتوحّش، على الرغم من عدم تساويهما في كفّة القوّة.
الكارثة أكبر ممّا يُطرح الآن، أكبر من مجرّد تعقيدات إجراءات الحصول على تأشيرة دخول، أو زيادة الضوابط في المطارات أو تقليل حجم التبادل الطبي والتجاري والتعاون الدولي، الكارثة من الخطورة أنها تهدّد الحضارة الإِنسانية التعدّدية، تهدّد التعايش التعدّد الذي هو أعظم مكتسبات الإِنسان حتّى الآن، وتعيد بالإِنسان الأوروبي بما يملك من قوّة دمار هائل إلى مبدأ القوّة فقط دون أي حسابات أخرى؛ فلا يمكن التسليم أبداً: أنّ مخزون الصبر الأوروبي لن ينفد أبداً.