في لفتة نقدية لطيفة كان بعض الشعراء قديماً يوصي بالتغني بالشعر، كحسان بن ثابت -رضي الله عنه- إذ يقول:
تَغَنَّ بالشعرِ إمّا كنتَ قائلَه
إنّ الغناءَ لهذا الشعرِ مضمارُ
فمن خلال هذا البيت وغيره أدرك بعض النقاد العلاقة بين الإنشاء والإنشاد، وما للتغني بالشعر من قيمة نفسية تدفع بالشاعر إلى مزيد من الحماسة، والاستغراق في الجو الشعري، وتجعله يحسّ بأنه محاط بجوّ غنائي لا يَشعر فيه إلا بوجوده هو والقصيدة فحسب، فأسامة بن منقذ يقول: «ولْيترنم بالشعر وهو يصنعه، فإنه يُعِينه عليه». وإضافة إلى ما يمنحه التغني للشاعر من جوٍّ حماسي، فإن التغني بالشعر وإنشاده يبيّنان للشاعر ما في قصيدته من اختلال في الوزن، أو عيوب في القافية، ففي قصيدة طويلة لنابغة بني شيبان تضمّنت وصايا في جوانب شتى كان الشعرُ إحداها، أوصى الشاعرَ بأن يُنشد قصيدته لهذا السبب، يقول:
وحَوكُ الشعرِ ما أنشدتَ مِنه
يُزايِلُ بينَ مُكفَئِه الغناءُ
فينفي سيئَ الإكفاءِ عنه
كما يُنفَى عنِ الحَدَبِ الغُثاءُ
غير أن التغني بالقصيدة أو إنشادها يمكن أن يخدع الشاعر؛ لأنه ربما عسف اللحن وطوّعه للبيت الذي ينشئه، فقد يأتي الشاعر إلى قاعدةٍ من قواعد العروض فيخترمها؛ لأن التلحين خدعه، وقد ذكرتُ في مقالٍ سابقٍ لي أن الشعر العربي لا تتوالى فيه خمسة متحركات، ومن ذلك أن عبدالرحمن العشماوي استعمل التفعيلة (فعلن) في المتدارك بتحريك النون (فعِلنَ)، وذلك في قوله:
لقّنتَ الثورة إحساسي
فأزال البسمة وتمرّد
فتوالى خمسة متحركات من ميم (البسمة) إلى ميم (تمرد)، وبصرف النظر عن توالي خمسة متحركات فإن فعلن بتحريك النون لم ترد في الشعر العربي، وأزعم أن اللحن أو تقطيع إلقاء القصيدة بحسب التفاعيل أوقع شاعراً كبيراً كالعشماوي في هذا.
ومن الأخطاء التي يقع فيها الشعراء أن الكامل الأحذ (متفاعلن متفاعلن متفا) لا بد أن تكون عَروضُه (التفعيلة الأخيرة من الشطر الأول) متحركةَ التاء لا ساكنة، ولو أن شاعراً سكّنها في غير تصريع لما شعر بذلك وهو يُنشد البيت، غير أنه هذا الفعل غير مقبول في العروض، مثل قول بعض المعاصرين:
وأنا هنالك أبتـغي درْباً
بين الصخور، وأطلب الرشدا
وكذلك البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعِلن) لا يمكن أن تأتي عروضه (التفعيلة الأخيرة من الشطر الأول) إلا متحركة العين (فَعِلُن) سوى ما كان في التصريع، ولو سُكِّنَت العين لاختل الوزن وإن بدا متناغماً مع اللحن، مثل قول سعيد عاشور الشاعر المصري:
نحن الذين إذا عنـكنَّ ولّينا
مَن يحرث الأرض ذي، والله رحمن
ومن إشكاليات كتابة الشعر بالتلحين أن اللحن قد يُوقِع الشاعر في خطأ نحويٍّ، يقول سعيد عاشور:
لو لم نكن بِرضى والحب جامِعُنا
فهل نعيش معاً أو يعلو بنيان؟
فقد أغفل في النطق واو (يعلو) وإن كان أثبتها في الكتابة، وإغفالها يعني أن الفعل مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهذا خطأ؛ لأن الفعل مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت حرف العلة. ومع إدراكي بأن الشاعر لم يعمد إلى هذا، وما خطر في باله أساساً، فإنني أرمي إلى فكرة مفادها أن الخلل العروضي يمكن أن يوقِع الشاعر في خطأ نحوي، ويجد الشاعر نفسه بين خيارين أحلاهما مر: الخلل العروضي، أو الخطأ النحوي.
كما أن الشاعر نفسه يقول:
رغيف الخبز يعلو كلّ يومٍ
وما تلحقْه أطراف البنان
فقد استعان باللحن أو تقطيع الإلقاء بحسب التفاعيل في إنشاء القصيدة، فجزم الفعل (تلحقه) وهو مرفوع؛ ليوافق سكون القاف نون (مفاعيلن).
ومثل ذلك قول أحمد الصالح (مسافر):
من قبل أن تأتين
كان قلبي مرهقاً
وكان حبي باهت العينين
وأزعم أنه ينشئ القصيدة على أنغام التفعيلة (مستفعلن) فعزب عنه أن الفعل (تأتي) منصوب وعلامة نصبه حذف النون، وليس مرفوعاً كما أورده، ولكن تلحينه البيت أو تقطيع الإلقاء بحسب التفعيلة قد حمله على نسيان أن الفعل منصوب، إضافة إلى ذلك فإن ياء قلبي كسرت الوزن، وكذلك ياء حبي. وكذا في قوله على الطويل؛ إذْ أثبت نون الفعل (تأتين) وهو منصوب:
فلا توقفي نبض الحنان بأضلعي
فمن قبل أن تأتين لم ترتعش حُبّا
ومثل هذا يمكن أن نقيس عليه قول ناجي الحرز في ديوانه (خفقان العطر) مع أن خطأه لا يصل إلى درجة خطأ سعيد عاشور، ولا خطأ أحمد الصالح، يقول ناجي:
يصهل الموج وأمتد على
صهوة البحر قناديلاً جميلة
وفي ظني أنه أنشأها على لحن رتيب؛ فجنح به اللحن إلى أن يصرف الممنوع من الصرف (قناديل) لتصبح التفعيلة سليمةً (فاعلاتن) مع أنه لو لم يصرف (قناديل) لكانت التفعيلة (فعلاتن) مخبونة، والخبن في الرمل جائز سائغ.
وبناء على ما تقدم من شواهد على الأخطاء العروضية، وما يمكن أن يجلبه الضعف في العروض من أغلاط لغوية؛ فإن معرفة الشاعر بالعروض، واطلاعه على أوزانه وما يدخلها من زحافات وعلل، والصور التي يأتي عليها ضرب البيت وعروضه قد صار مهمّاً، وخاصة للشعراء المعاصرين، ولا أعني بالمعرفةِ التعمّقَ والتوسع؛ فهذا أمر قد يشق على الشاعر، ولكنْ لا بد أن يشدو الشاعر شيئاً من علم العروض، ويعيد مطالعته بين فينة وأخرى؛ لئلا يقع في مثل ما وقعَتْ فيه الشواهد التي ذكرتُها.
- سعود بن سليمان اليوسف