التبرُّع بالدم تجسيد لروابط الأخوة والألفة بين المسلمين ">
الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أجمع عدد من أهل الرأي والاختصاص في الشريعة والتربية وعلم النفس والطب على الفوائد الكبيرة التي يحققها المتبرع بالدم، وأنها تجسّد صورة حيّة لأفراد المجتمع المسلم في تعاونهم وتعاضدهم انطلاقاً من قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (2) سورة المائدة.
مشيرين إلى أن التبرع بالدم للقادر عليه من الضرورة المعاصرة، وهو عنصر مهم من عناصر التكافل الاجتماعي الذي يقوم على ركيزة اجتماعية متمثلة في إعانة الناس وضمان حياة كريمة لهم.
«الجزيرة» تناولت أهمية التبرع بالدم من عدد من ذوي الاختصاص ليتحدثوا عن الفوائد الجليلة للإِنسان في دينه ودنياه.
فقهي وتكافلي
بدايةً تناول الدكتور نايف بن عمار آل وقيان الدوسري أستاذ الفقه وأصوله المشارك في جامعة الأمير سطام بن عبد العزيز الموضوع من جانبين:
الجانب الأول: الجانب الفقهي والثاني: الجانب التكافلي.
فالجانب الفقهي نعلم جميعا أن الشرائع كلها جاءت بحفظ الأنفس وعدت ذلك ضرورة من ضرورات الحياة وتأتي في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين، حيث حرمت الاعتداء عليها وجعلت ذلك كبيرة من كبائر الذنوب قال سبحانه: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (93) سورة النساء، ونهت عن كل ما يؤدي إلى الإضرار بها قال تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ) (195) سورة البقرة، ورغبت في كل ما فيه حياتها وسلامتها قال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (32) سورة المائدة.
ولا شك أن التبرع بالدم يعد من أسباب حياة الأنفس بل قد يصل لدرجة الوجوب فيما إذا اضطر آخر إليه وليس ثمة غير هذا الشخص الذي يتناسب مع فصيلته ولا يترتب عليه ضرر.
أما الجانب التكافلي: فهذا مما تميزت به شريعتنا الإسلامية - ولله الحمد - حيث قال سبحانه: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (2) سورة المائدة، وحث رسولنا - صلى الله عليه وسلَّم - على التعاون في أحاديث كثيرة، ومن أعظم التعاون والبر والتراحم بين المسلمين ما فيه حياة نفوسهم وحفظها من الهلكة أو المرض. فتبرعك لإخوانك المسلمين يدل على سماحة نفسك وكرمك ومحبتك لأخيك المسلم كما تحب لنفسك وهذا من كمال الإيمان والمروءة والسخاء.
وهذا الإحسان الكبير يؤجر عليه المسلم فيثيبه الله على هذا العمل، ولذا أذكرك أيها المتبرع باستحضار نية نفع المسلمين وإنقاذ نفوسهم لعل الله أن يكتب لك الأجر، وهو أجر عظيم جدا فقد يكون هذا الدم سببا لإنقاذ حياة هذا المريض فتكون كما قال الله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).
ويعد التبرع بالدم للقادر عليه من الضرورات المعاصرة حيث كثرة الحوادث سواء حوادث السيارات أو الحروب أو غيرها من الكوارث. فالمجتمع مطالب بكل صور التكافل والتعاون التي تجسد روابط الأخوة والألفة بين المسلمين، والتبرع بالدم صورة بارزة ناصعة من صور هذا التكافل والترابط، وهذه الصورة وغيرها من صور التكافل تجعله مجتمعا قويا متماسكا لا ينفرد أحد بنفسه بل كما وصفه المصطفي - صلى الله عليه وسلَّم - بالبنيان المرصوص، وبالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى.
فمقاصد الشريعة تأمر بحفظ الأنفس ولا شك أن التبرع مما تحفظ به النفوس. كما أن من مقاصدها العامة التعاون والتآخي بين المسلمين ولا شك أن التبرع بالدم يظهر فيه بجلاء هذا المقصد الهام.
وقد يسرت الدولة - وفقها الله - التبرع حيث أوجدت في كل مستشفي بنوك للدم بل ووضعت لذلك الحوافز التشجيعية. نسأل الله التوفيق والسداد.
ركيزة أساسية
ويشير الدكتور فيصل بن بجاد السبيعي رئيس قسم التربية وعلم النفس بكلية التربية والآداب بتربة إلى أن التكافل الاجتماعي يقوم على ركيزة اجتماعية تتمثل في: العمل على إعانة الناس والإنفاق عليهم وضمان حياة كريمة لهم.
والتكافل الاجتماعي من مظاهر التربية الاجتماعية لكل مجتمع إِنساني يؤمن ويعتقد ان كرامة الفرد وحق العيش الكريم له هبة من الله وكرامة تفضل بها المولى - عز وجل - لعباده، وهو من الأصول والقواعد التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، ومن مظاهره
إعانة الملهوف، وسد حاجات الآخرين، وتفريج كرباتهم، وكفالتهم، ورعايتهم، ودفع الضرر عنهم. وإذا اختلت هذه الموازين ووجد في المجتمع المحتاجُ والملهوفُ والمتضرُر، ولم يجدوا من يكفلهم فسوف يؤدي ذلك إلى انهيار المجتمع. وفي المقابل فرعاية وكفالة
هؤلاء تجسد قول الرسول - صلى الله عليه وعلى وصحبه وسلم - : « المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا «، وذلك أن الإسلام قد اهتم ببناء المجتمع المتكافل ووصفه الرسول - صلى الله عليه سلم - بقوله: « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر «.
والمساهمة بالتبرع بالدم تجسد صورة حية لأفراد مجتمعٌ يتكافل أفراده اجتماعياً، فهو من قبيل إغاثة الملهوف، وتفريج الكرب، وإنقاذ حياة الأفراد، ورسمة البهجة على وجيه من يحتاجه، وإعادة الأمل لهم، ودفع الضرر عنهم. وهذا يرسم صورة جمالية لمشاركة
الناس أحزانهم، كما يصور مظهر تكافلي اجتماعي نفسي واجتماعي، حيث يسد حاجات نفسية.
وحيث لا يمكن قصر التكافل الاجتماعي على النفع المادي، وإن كان ذلك ركنًا أساسيا فيه، بل يتجاوزه إلى جميع حاجات المجتمع أفراداً وجماعات، مادية كانت تلك الحاجة أو معنوية أو فكرية أو حسية على أوسع مدى لهذه المفاهيم، فهي بذلك تتضمن جميع الحقوق الأساسية الكريمة للأفراد والجماعات داخل مجتمع الأمة الواحدة، التي ترتبط بروابط الوطنية وإِنسانية من جهة أوسع.
فوائد طبية
وذكرت الدكتورة ريما بنت صالح الحمادي استشارية أمراض النساء والولادة والمدير الطبي بمستشفى الحمادي بالرياض أن الإِنسان البالغ يجول في شرايينه وأوردته 6 - 8 لترات من الدم حاملة الغذاء والطاقة والأوكسجين إلى كل أعضاء وأجهزة الإِنسان وناقلة مخلفات عمليات بناء الجسم وإنتاج الطاقة وغاز الكربون إلى أعضاء الجسم الطارحة للسموم والمخلفات (الرئة - الكبد والكلية) كما يلعب الدم دوراً في نقل الإشارات الكيميائية المنظمة لعمل أعضاء الجسم بين مختلف الأعضاء المنتجة لها والمتأثرة بها.
يتألف الدم من قسمين: قسم سائل يسمى البلازما يحمل المواد الغذائية المختلفة اللازمة لبناء خلايا جسم الإِنسان، ومركبات كيميائية تعمل كناقل للإشارة ووسيلة اتصال بين مختلف الأعضاء والخلايا بالإضافة لبروتينات جهاز تخثر الدم التي تعمل كمرقئة
لأي وعاء يتعرض للثقب لإيقاف النزيف وفقد الدم.
أما القسم الثاني الخلوي فيتشكل من خلايا مسؤولة عن جهاز المناعة هي كريات الدم البيضاء وخلايا صغيرة هي الصفيحات تعمل كعامل أساسي في جهاز تخثر الدم وكريات الدم الحمراء ناقل الأوكسجين والكربون.
وتعيش كريات الدم الحمراء من شهر إلى شهرين وكريات الدم البيضاء المحببة بضعة أيَّام بينما تعيش اللمفاوية لمدة طويلة وهي تمثل الذاكرة المناعية للجسم أما الصفيحات فتعيش 4 إلى 7 أيَّام.
وفي فقر الدم المزمن تنخفض عدد خلايا الدم الحمراء عن العدد اللازم لعمل أعضاء الجسم المختلفة بشكل سليم، وفي أمراض أخرى تتأثر خلايا الدم البيضاء ما يؤثر على جهاز المناعة، والصفيحات ما يؤثر على وظيفة تخثر الدم ويعرض الإِنسان لنزف داخلي ويحاول الجسم جاهدا تعويض هذا النقص لكن في كثير من الأحيان يلزم نقل دم من متبرع للحفاظ على حياة وصحة المريض، أما في الحوادث الطارئة التي ينجم عنها نزف شديد كحوادث السير والإصابات الرضية والنزف بعد الولادة أو عند إجراء عمل جراحي تتأثر أعضاء الجسم الحيوية ولاسيما الدماغ والقلب بشدة وبسرعة للنقص في الأوكسجين والطاقة ولانخفاض ضغط الدم مما يعرض حياة الإِنسان ووظائفه الحيوية للخطر خلال دقائق ما يوجب
النقل السريع للدم لإنقاذ حياته.
وتضيف د. ريما الحمادي أن بنوك الدم تعمل على جمع الدم من متبرعين وفحصه للتأكد من خلوه من أي عوامل معدية والتأكد من ملاءمته للمتبرع قبل نقله عند الحاجة إليه، لا يسمح الشرع الإسلامي ولا قوانين المملكة (وقوانين الكثير من الدول) بالمتاجرة
بالدم: أي جمعه من متبرعين لقاء عائد مادي، ويبقى المصدر الرئيسي له هو التبرع الإرادي لعمل الخير أو التبرع من أهل وأصدقاء المريض. يعمل بنك الدم على التأكد من قدرة المتبرع على التبرع بدمه حيث يجب عليه الإجابة عن العديد من الأسئلة ثم يفحص طبيا ويتم التأكد من عمره ووزنه وخلوه من الأمراض ومن وجود كمية كافية من خضاب الدم عنده تسمح له بالتبرع، كما يطلب منه أن يؤكد موافقته الواعية خطيا لذلك بعد أن يَتمَّ شرح كل ما يجب معرفته للتبرع.
ويمكن للإِنسان البالغ الصحيح الجسم التبرع حتى نصف لتر من دمه دون أي تأثير على صحته ونشاطه، قد تظهر أحيانا بعض الأعراض من دوار وتعب لكن سرعان ما تزول وغالبا ما تعود لتأثير عصبي نفسي، وبعد التبرع يتلقى نخاع العظم (وهو النسيج المسؤول عن إنتاج خلايا الدم) إشارات عن الحاجة لتعويض الدم المفقود فيقوم بتنشيط توليد خلايا دم جديدة تعوض المفقود خلال أيَّام بخلايا أكثر نشاطا وحيوية في تأدية المهام المطلوبة منها. وفي مستشفي الحمادي نقول لزائرينا من المواطنين والمقيمين انه بإمكانك في وقت صحتك أن تمنح غيرك فرصة للحياة وبضع دقائق لا تتجاوز 10 - 15 دقيقة (وهو الوقت اللازم للتبرع) يمكنك فيها أن تنقذ روح مريض، وأثناء قراءتك لهذه السطور فد يكون هناك مريض يعاني من مرض خطير أو مصاب بحادث وتعتمد حياته على توفر وحدة دم مطابقة لنوع دمه، وقد لا يحتاج معظمنا لنقل دم طوال حياته لكن بالنسبة للبعض قد تعني قطرة الدم الفرق بين الحياة والموت.
يوم عالمي
ويقول الدكتور شاكر بن عبد العزيز العُمري استشاري طب الأسرة إنّ التبرع بالدم عمل إِنساني نبيل، لأنه يسهم في إنقاذ حياة المرضى أو المصابين الذين يكونون في أمس الحاجة لنقل الدم. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (32) سورة المائدة.. وفي الصحيح: «من فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» رواه الشيخان من حديث ابن عمر، كما في اللؤلؤ والمرجان، برقم 1667).
تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنه تم جمع نحو 108 ملايين وحدة من وحدات الدم المتبرع به في جميع أنحاء العالم وتسعى إلى حصول جميع البلدان على إمداداتها بالدم بالاعتماد على التبرعات التطوعية والمجانية بنسبة 100 في المئة بحلول عام 2020 م، لذلك قامت منظمة الصحة العالمية بتخصيص يوم عالمي للتبرع بالدم وذلك لرفع الوعي بأهميته في إنقاذ حياة الناس حيث يوافق 14 يونيو من كل عام.
يمكن للشخص البالغ الذي يتمتع بصحة جيدة أن يتبرع بحوالي (450 - 500 مل) من دمه دون أي مخاوف أو أخطار على صحته، ويمكنه التبرع كل ثلاثة أشهر حيث إنه للتبرع بالدم فوائد متعددة ومنها زيادة نشاط نخاع العظم لإنتاج خلايا دم جديدة (كريات حمراء وكريات بيضاء وصفائح دموية) وزيادة نشاط الدورة الدموية. كما أن التبرع بالدم يساعد على تقليل نسبة الحديد في الدم لأنه يُعدُّ أحد أسباب الإصابة بأمراض القلب وانسداد الشرايين.
شروط مهمة
ويبيّن د. العُمري بعضاً من شروط التبرع بالدم أن يكون المتبرع بصحة جيدة ولا يعاني أي أمراض معدية، وأن يكون عمره من 18 - 65 سنة، وأن لا يقل وزن المتبرع عن 50 كجم، وأن تكون نبضات القلب بين 50 - 100 في الدقيقة، وأن لا تزيد درجة حرارة الجسم على 37 درجة مئوية، وأن يكون معدل ضغط الدم أقل من120 / 80 ملم زئبق.
كما ان الحالات التي لا يسمح لها بالتبرع بالدم إذا التي لا يسمح لها بالتبرع بالدم إذا كان العمر أقل من عمر 18 سنة، والمصابون بأمراض معدية مثل (الإيدز، التهاب الكبد ب وج، الزهري، الملاريا). المصابون بأمراض الدم الوراثية، والمصابون بفقر الدم الحاد، والمصابون بالأمراض المزمنة مثل السكري، وارتفاع ضغط الدم والسرطان.
ويقدم د. شاكر العُمري بعض النصائح العامة للمتبرعين بالدم وذلك بأن يقوم المتبرع بأخذ قسط من الراحة وتناول وجبة خفيفة وبعد 10 - 15 دقيقة يمكنك مغادرة مكان التبرع، مع تجنب النشاط البدني الشاق أو رفع الأحمال الثقيلة لمدة 5 ساعات بعد التبرع، وأنه عند الشعور بـ«الدوخة» ينصح بالاستلقاء على الظهر مع رفع القدمين، والإكثار من شرب السوائل.