رآه مقبلاً إلى طرف صف المصلين الأيمن حيث يقف هو منتظراً تكبيرة الإحرام من الإمام، فتحول إلى شمال الصف وصلى. استغربت هذه الحركة من ذلك الشاب.
وبعد الصلاة جلست مع نفسي، واستعدت ما قام به أحمد، وعادت بي الذاكرة إلى الوراء، فتذكرته وهو في الصفوف الدنيا، يتمرغ بجسد والده وهما يتضاحكان في ساحة المدرسة، والأب يقول له:
ـ هيا بنا نذهب لمقصف المدرسة كي أشتري لك فطوراً.
يمسك أحدهما بالآخر ويذهبان. وتذكرت سؤاله المتكرر عنه، ودفاعه المستميت عنه، حتى أضحى الأطفال يهابون والده ذا الجثة الضخمة، ولا يعتدون عليه. وتذكرت كلماته وهو يتصل به بهاتفه النقال ممازحاً له ومداعباً وهو في غاية
السرور:
ـ ماذا أشتري لك يا حبيبي؟!!
قلت في نفسي: لا بد أن شيئاً حصل غيّر قلب أحمد على والده، كيف أعرفه؟ وماذا أفعل حتى أعرفه؟
انتظرته حتى أدى الصلاة، ثم أخذته إلى زاوية من زوايا المسجد، وقلت له:
ـ لماذا يا أحمد لم تقف عند والدك في الصلاة؟
قال بكل براءة:
ـ أخاف منه؛ فهو مجنون.
ـ ومن قال لك؟
ـ أمي.
ـ هل يؤذي الناس؟
ـ لا.
ـ الذي لا يؤذي الناس كيف يؤذي ابنه الذي يحب؟ ثم إنه ليس بمجنون.
ـ هو لا يسأل عني.
ـ أنت اسأل عنه، وتودد إليه؛ فهو مريض وبحاجة إليك، وكلما كبر في السن احتاج إليك، وهو باب من أبواب الجنة التي قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ـ كلما أردت الاقتراب منه تذكرت تحذير أمي لي منه فأخاف وأبتعد.
ـ كما قلت لك، هو لا يؤذي أحداً، ولو اقتربت منه ربما تساعده على الشفاء - بإذن الله - من حالته هذه التي تنتابه.
ـ سوف أحاول الاقتراب منه، لكن على حذر.
ـ لا تخف يا أحمد، إن عاطفة الأب جياشة، سوف تراه يبادلك الحب.
دخل السرور إلى قلب الأب بحنو ابنه عليه.. غمرته السعادة، لم يحتمل قلبه الفرح.. وجدوه ميتاً في يوم من الأيام، بجوار بيت ابنه وأمه.
قصة قصيرة/ إبراهيم شيخ مغفوري - (جازان 1437هـ)