ابن عمشة وابن ممدود أشهرهم ">
كتب - أحمد النواف الجربا:
لبَّيت دعوة بعض الأصدقاء لإحدى المناسبات، وإذا بين الحضور شبابٌ من أبناء القبائل تعلموا في الغرب يستهزئون بـ(الربابة) ويثنون على الطرب الغربيّ وآلاته وموسيقييه. ولم يمض وقتٌ طويلٌ حتى سمعت تصريحاً لأحد النوّاب اللبنانيين المحسوبين على تيارٍ معين معاد للعرب، يسخر فيه ممن أسماهم (أهل الربابة والجمل).
ويتساءل البعض: ما الفائدة من هذا الفنّ في حياتنا السريعة، أليس الأفضل وضعه في المتاحف ونحن في الألفية الثالثة وقد قطعت البشرية مراحل طويلةً من الاكتشافات من إنترنت ونانو واتصالات وعلوم فضاء؟ وللردّ على ذلك نقول إن العلوم لا تقوم على الجهالة، ولا يمكنها مهما تطوّرت أن تغيّب الآداب والفنون الشعبية التي تشكّل ذاكرة الأمم ووجدانها النابض بالحياة والقيم. ومقابل كلّ الاكتشافات السابقة تظلّ حاجة العقل البشريّ ملحّةً إلى الأغاني والمأثورات الشعبية التي تساعد في حفظ الهوية وتوازن الشخصية وانسجامها مع المحيط الاجتماعيّ، والفنّ الشعبيّ من أكثر الأدوات الفاعلة في هذا.
وانظر إلى الأسرة الحاكمة في بريطانيا، عمرها 700 سنةٍ وفي المناسبات يستخدمون الآلات القديمة، وخاصةً مزمار القربة Bagpipes. وها هي الإمبراطورية اليابانية عمرها أكثر من 2000 عامٍ، والكثير من اليابانيين تعلّم في الغرب بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم يتهجّموا على تراثهم أو يغيّبوا تاريخهم. فلماذا نستحي من هذه الآلة، نحن البدو، إذا كان الكثير من المستشرقين والرحّالة من أبناء وأحفاد الأمراء والنبلاء والأرستقراطيين عاشوا مع البدو ودرسوها وكتبوا عنها الأبحاث، وعزفوا عليها، وحملوها هدايا إلى ذويهم. ومنذ أكثر من شهرٍ، وفي مقابلةٍ مع جيزيل خوري على تلفزيون BBC، مع الحاكم والشاعر والفنان التشكيليّ الأمير خالد الفيصل، سمعه الجميع وهو يعتزّ بقوله: (نحن البدو نفعل كذا وكذا). فلماذا ينتقد بعض الذين ذهبوا إلى الغرب تراثنا إلى درجة التبرّؤ منه والتمسّك بالآلات الغربية الحديثة!
عرف العرب الربابة، بشكلها الحاليّ، منذ القرن الثاني أو الثالث الهجريين. ووصفها الفارابيّ بالتفصيل في كتابه الضخم (الموسيقى الكبير)، الذي ترجم إلى اللغات الأوربية. ويعدّ عبد الله بن ممدود أول عازفٍ على الربابة تذكره الموسوعات اللغوية، فقد ذكره ابن منظور في موسوعته (لسان العرب) في القرن الرابع الهجريّ. وبالإضافة إلى مهنته الثقافية والشعرية كان ابن ممدود يلعب دوراً مهماً في المشاركة في المفاوضات بين القبائل عند اشتداد النزاعات. أما أشهر من لعب وعزف على الربابة في العصر الحديث فهو ابن عمشة الأسلميّ الذي استقبله الرئيس اللبنانيّ الأسبق كميل شمعون، وحاكم العراق وقتها الوصيّ الشريف عبد الإله وابن صباح. وكانت معزوفاته تبثّ من إذاعات السعودية والكويت وبغداد. وكان مقرّباً من كثيرٍ من الشخصيات العامة في الخليج والعراق، ومنهم عائلة الجربا أبناء الشيخ فيصل الفرحان الباشا والشيخ هذال فهد العاصي.
وقد برع العرب في الغناء على الربابة، ولا سيما أبناء القبائل في الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر والمغرب العربيّ، كما في الأندلس وتركيا. وكان حضور عازف الربابة حيوياً ومهماً في الحياة الاجتماعية، فالآذان تألفها وتستمتع بها، وهي بعيدةٌ عن الصخب، كما أنها قرينة الشعر. وتضمّنت النصوص التي تغنى بها عازفو الربابة المعاني الحماسية والمبادئ الأخلاقية التي تحضّ المتلقي على الشجاعة والصبر والكرم وصلة الرحم ومساعدة المظلوم ومواجهة الظالم. وقد خلّد عازفو الربابة عدداً كبيراً من أهل الشجاعة والجود والمروءة والتسامح في أشعارهم وأغانيهم.
ومما يؤسف له أن قلّةً، بل ندرةً، من الدراسات العربية اهتمّت بهذه الآلة الوترية الفذّة، ومنها دراسةٌ متميزةٌ للصحفيّ والشاعر راشد بن جعيثن، صدرت بعنوان (أنثروبولوجيا ربابة عرب الجزيرة). ومن هنا فإننا نحثّ الموهوبين من عازفي الربابة على تجديد هذا الفنّ بما يلائم متغيّرات العصر المعرفية والاجتماعية. كما هي دعوةٌ لوسائل الإعلام، من تلفزيوناتٍ وغيرها، إلى تسليط الضوء على هذا الجانب الموسيقيّ التراثيّ المميّز، وتشجيع المبدعين فيه على المزيد من التطوير والإبداع.