كتب د. خالد عبدالله الخميس ود. أحمد كساب الشايع:
هذه رسالة مفتوحة للأكاديميين في أقسام علم النفس بالجامعات العربية، ونخص بالذكر منها الجامعات السعودية حول اعتبار علم النفس ينتمي للتخصصات العلمية Science أو التخصصات الأدبية Art، وأنه أقرب لأن يُسَكن في كليات العلوم الطبية التطبيقية أو كلية العلوم بدلاً من سكنه الحالي في كليات التربية أو الآداب أو العلوم الاجتماعية.
تعلمون يا سادة يا كرام أن أقسام علم النفس العالمية تنتمي لكليات العلوم أو العلوم الطبية التطبيقية، وأنها في الجامعة العربية وكذا السعودية لا زالت تتبع لكلية التربية أو كلية العلوم الاجتماعية أو كلية الآداب، ويرجع سبب تبعيتها لتلك الكليات إلى إرث قديم سار عليه السابقون والتزم به اللاحقون دون أن يفتشوا فيما استجدت عليه موضة الجامعات العالمية.
وقد كان سبب انضمام أقسام علم النفس في الجامعات السعودية لكليات التربية يهدف لأمرين: الهدف الأول تزويد طالب في كلية التربية بالمواد التربوية التي تتقاطع مع علم النفس كعلم النفس التربوي والتقويم التربوي وعلم نفس النمو. والهدف الثاني هو إيجاد برنامج بكالوريوس لدراسة علم النفس يهدف لتلبية حاجة التعليم العام لتأهيل مدرسين لمادة علم النفس.
لكن الهدف الثاني لم يعد قائماً، إذ إن التعليم العام لم يعد بحاجة لمدرسي علم نفس، وذلك بسبب تشبع سوق العمل. وفي الوقت ذاته يظل الهدف الأول قائماً بوجود قسم علم النفس مصغراً (ليس بكالوريوس) في كليات التربية لتزويد الكلية بالمواد النفسية التربوية.
من جانب آخر، كان سبب انضمام قسم علم النفس لكليات الآداب أو العلوم الاجتماعية لعادة قديمة تقول إن منهج الدراسة في علم النفس هو منهج فني أدبي، ولذا صُنف على أنه من التخصصات الأدبية، ورغم أن هذه المقولة قد ألغيت منذ قرابة القرن عندما أدخلت الدراسات السلوكية حيز المعمل والتجريب وأصبح الظاهرة النفسية تخضع للمقاييس التجريبية مثلها في ذلك دراسة الظواهر الكيميائية والحيوانية والنباتية، لذا كان لزاماً أن ينتقل تخصص علم النفس إلى الكليات العلمية، وهو الأمر المعمول به في الجامعات الغربية منذ عهود.
لكن خوفنا من التغيير وعمق البيروقراطية عند بعض الأكاديميين هو ما قاد تلك الأقسام للتشبث بالثوب القديم واستمرارية التخلف بالرغم من أن المختصين في علم النفس يعلمون جيداً أن المنهج التجريبي في علم النفس لم يقتصر تطبيقه في دراسة ظاهرة الانتباه أو الإدراك أو التفكير أو الانفعالات بل امتدت تطبيقه لأن يصل لأبعد نقطة ممكن أن يصل إليها المنهج التجريبي ألا وهي الظواهر النفسية الاجتماعية، ورغم علمهم أيضاً أن من ضروريات دراسة علم النفس وضرورة تأهيل اختصاصيين نفسيين معتبرين أن يكون لديهم الدراية بالمواد العلمية البحتة كالإحصاء والبرمجة والفيزولوجيا وعلم الأعصاب والكيمياء الحيوية وعلم الدواء. ورغم علمهم كذلك أن أي سلوك الذي هو عنوان تخصصهم هو انعكاس لتغيرات بيوكيميائية تجري في الدماغ، وأن قوانين هذه التغيرات هي قوانين فيزيقية يتطلب فهمها فهماً معمقاً لأصول البيولوجي والكيمياء والكيمياء الحيوية.
وأكبر غرابة من هذا وذلك، أن معظم المختصين في علم النفس السعوديين وغير السعوديين الذين درسوا الدكتوراه بالجامعات الغربية درسوا في أقسام علم كانت تتبع لكليات العلوم أو العلوم الطبية لكنهم بعد عودتهم من البعثة رضوا بوجود قسم علم النفس في كلية التربية وتماشوا مع الثوب القديم.
إن انزواء أقسام علم النفس في كليات التربية أو الآداب في العالم العربي قاد لأن يغيب تصدر واحد من تلك الأقسام إلى رقم عالمي من بين أفضل الأقسام النفسية في العالم، وقاد لأن يكون الاختصاصيون النفسيون من تلك الأقسام ضعفاء علمياً ومهارياً حتى اشتكي من ضعفهم أرباب العمل سواء في مجال العلاج النفسي أو الاختبارات النفسية أو الإرشاد والتوجيه النفسي.
ولعلي أعود وألخص الأسباب التي تدعو لضرورة نقل قسم علم النفس من كلية التربية أو الآداب إلى الكليات العلمية سواء كانت كلية العلوم أو العلوم الطبية التطبيقية في الآتي:
- إن وجود قسم علم النفس في كلية التربية يلزم اهتمامات وتطبيقات علم القسم أن تنحصر في الجانب التربوي، رغم أن علم النفس التربوي ما هو إلا واحد من عشرات التطبيقات لعلم النفس. والجدول (3) يوضح هذا.
- قلة حاجة سوق العمل لمدرسين مختصين في علم النفس يدعو لإيقاف تخريج طلاب علم نفس من كليات التربية، والسؤال الذي يصعب على أي أحد الإجابة عليه هو: كيف يلحق قسم علم النفس بكلية التربية في الوقت الذي اكتفى التعليم العام من الحاجة لمدرسين في علم النفس.
- هنالك كثير من المواد التربوية التي يلزم به طال علم النفس نابعة من متطلبات كلية التربية أو الآداب وهذه المواد لا تصب في تأهيل الاختصاصي النفسي وفي ذات الوقت تعيق من توسع خطة القسم بالمواد اللازمة.
- الطلاب الذين تدربوا في المستشفيات لا يندمجون بسهولة مع الطاقم الصحي بسبب أن الكلية الحاضنة لهم هي كلية التربية وليست كلية العلوم الطبية.
- لو أردنا أن نستشهد بما عليه أقسام علم النفس في الجامعات العالمية فستجد أن معظم أقسام علم النفس تندرج تحت مظلة كلية العلوم أو العلوم الصحية (كما في جدول 1)، لكن أقسام علم النفس في الجامعات السعودية والعربية هي تابعة للكليات الإنسانية أو التربوية ولم يجرؤ واحد من الأقسام من الانفكاك من تبعات الإرث القديم.
- يمكن استثناء قسم واحد فقط من أقسام علم النفس في الجامعات السعودية التي اندرج أخيراً في كلية العلوم الصحية، وهو قسم علم النفس بجامعة الأميرة نورة، فهذا القسم خطى خطوات شجاعة في التطوير الفعلي بناء على ما عليه خطط الجامعات العالمية (انظر جدول 2 الموضح لتوزيع أقسام علم النفس على كليات الجامعات السعودية).
- بالرجوع لموقع QS (جدول 1) المعني بتصنيف الجامعات تجده يصنف علم النفس على أنه من ينتمي للعلوم الحيوية الصرفة أكثر من انتمائه للتخصصات الأدبية أو الإنسانية أو حتى العلوم الاجتماعية.
- لو تأملت المواد التي تدرس في بعض أقسام علم النفس لوجدت أن بعضها ينتمي لمتطلبات الكليات العلمية وليس الأدبية مثل علم النفس الإكلينيكي، علم النفس الإحصائي، برنامج SPSS الإحصائي، علم النفس الحيوي، علم النفس العصبي، علم النفس الفيزولوجي، كيمياء السلوك، الوراثة النفسية، علم النفس الدوائي، علم النفس التجريبي، وغيرها. وهذه المواد تناسب الطالب ذي الخلفية العلمية الصرفة. أضف لذلك أن أساتذة هذه المواد يعانون مشكلة في تدريسها لطلاب الأدبي.
- أصبح من الملح على أي اختصاصي نفسي، الإحاطة بعمث بالتفسيرات الفيزيولوجية للاضطرابات النفسية، وهذا لا يتأتى إلا بمعرفة التغيرات البيوكيميائية للدماغ، وهو الأمر الذي يستصعبه الطلاب ذو الخلفية الأدبية. أضف إلى ذلك أنه في النسخة الحديثة من الدليل الكامل التشخيصي والأحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) أصبح يؤكد على أهمية التغيرات البيوجزيئية Molecular Biology وذلك بعد تطور علم الجينوم Genomics وكل هذا يؤكد على ضرورة تأسيس طالب علم النفس بخلفية علمية صرفة.
- يوجد في بعض أقسام علم النفس قسم خاص للمختبرات، يماثل في بنائه مختبرات الكليات العلمية، لكن هذه المختبرات أشبه ما تكون معطلة أو أنها لم تفعل بالشكل المطلوب، وذلك لخلو هذه المختبرات من الفنيين المدربين وأكثر من هذا تأثيراً أن موضوع المختبرات لا يشغل كثيراً اهتمامات الكليات التربوية.
- يصعب على المختصين في علم النفس في السعودية تأسيس جمعية علمية نفسية مستقلة بسبب انتماء القسم لكليات التربية بحجة وجود جمعية نفسية تربوية، وكأن كلية التربية فرضت وصايتها على كل مواضيع علم النفس وحدت من حركة تطويره وحريته حتى في مجال تكوين الجمعيات العلمية.
- يصعب على المختصين في علم القسم في السعودية تأسيس مجلة نفسية مستقلة بحجة وجود مجلات نفسية - تربوية تابعة لكليات التربية، فوجود قسم علم النفس تحت غطاء كلية التربية يحد من الانفراد بمجلة نفسية مستقلة.
- في سابق تجربة لجامعة الملك سعود، أقرت إدارة الجامعة على فصل بعض أقسام كلية العلوم الإدارية لتصبح كلية مستقلة سميت بكلية إدارة الأعمال وألزمت طلاب تلك الأقسام بالالتحاق بالسنة التحضيرية (المسار العلمي)، وكانت النتيجة إيجابية أدت لتحسن أداء الأقسام علمياً وأكاديمياً ورفع هذا من مستوى خريجيها، بل وازدهرت جمعيات في إدارة الأعمال وتأسست مجلات علمية مستقلة في إدارة الأعمال.
- وفي سابق تجربة أخرى، استقل قسم التربية البدنية بجامعة الملك سعود الذي كان تابعاً لكلية التربية بكلية مستقلة سميت بكلية العلوم الرياضية والنشاط البدني، وكان من تبعات هذا الاستقلال الانفكاك من متطلبات الكلية، ولذا تحسنت مخرجات القسم أكاديمياً وعلمياً حتى تأسست لديهم مجلة علمية مستقلة.
- أخيراً، إن قسم علم النفس لن يكون مجرد رقم لأي كلية ينتسب إليها، بل سيكون إضافة مميزة لكون مواضيع علم النفس متشعبة وتتقاطع مع أي تخصص أياً كان موضوعه، أضف إلى ذلك أن قسم علم النفس دائماً ما يهدي لأي كلية ينتمي إليها تكفله بتدريس مادة لا تستغني عنها التخصصات العلمية هي مادة مناهج البحث العلمي.
في الختام: إن مسألة تطوير أقسام علم النفس لا تتأتى إلا من خلال مواكبة سياسة أقسام علم النفس في الجامعات العالمية العريقة والتي ضُمت منذ عشرات السنين إلى الكليات العلمية، وأن قضية تصنيف علم النفس كتخصص علمي Science أصبحت قضية مفروغ من نقاشها في الجامعات العالمية، ولكن ما زال عندنا الإرث القديم حاكماً على قرار نقل قسم علم النفس للكليات العلمية، ولا زالت سياسة كلية التربية أو الآداب تستخدم السلطة الأبوية في إعاقة نقل قسم علم النفس للكليات العلمية.
من جانب آخر مؤكدٌ أن يصاحب أي عملية انتقالية مصاعب وتحديات لكن ما دام أن الغاية هي دفع عجلة التطور الأكاديمي والرفع بمستوى الأكاديميين والخريجين في تخصص علم النفس فإن أي تحد أو صعوبة ستهون وتتصاغر أمام الهدف الأكبر.
أيها السادة، يكفينا تأخراً علمياً في علم النفس أن دام أكثر من 50 سنة، ويكفينا أن يصل الخطاب لـ80% من أقسام علم النفس ويكفينا أن يعمل به 20%.
***
قسم علم النفس - جامعة الملك سعود
للحصول على نسخة إلكترونية رجاءً الإرسال إلى Samary5050@hotmail.com