محمد حطيني
في مقال لي في شهر ديسمبر من العام الماضي حول الانسحاب الإيراني من سوريا، تطرقت فيها إلى أسباب ذلك الانسحاب، وأن الحروب هذه الأيام تنوء بميزانيات أكبر الدول، ومنها روسيا التي ذكرت أنها لن تستطيع الاستمرار في التواجد على الأرض السورية لأكثر من عدة أشهر قادمة إذا طال أمد الحرب، لأن روسيا تخضع لعقوبات اقتصادية أمريكية وأوروبية، وميزانيتها ستكون عاجزة عن تحمل أعباء حرب استنزاف طويلة الأمد بالنظر للتكلفة الباهظة للحروب في هذه الأيام ولا تقارن بمثيلاتها في الأزمنة الغابرة.
وفي اعتقادنا أن المخططين الروس كانوا يتوقعون استكمال مهمة التدخل الروسي في سوريا خلال مدة وجيزة، من حيث التمكين لنظام الأسد ومساعدته في بسط سيطرته على أرجاء الأرض السورية، علاوة على استهداف تشكيل انقلاب جديد في التوازنات الدولية القائمة في المنطقة، لكن النتائج أتت مغايرة لتمنياتهم على ما يبدو، وبالتلي فإن أيسر الحلول لهم انسحابهم من سوريا وبأقل درجة ممكنة من الخسائر عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
ومع ذلك فإن ثمة خفايا أخرى لهذا الانسحاب الذي أعلنه الرئيس بوتين، وكان مفاجأة للعالم، على أنني لم أفاجأ بالقرار استناداً إلى ما أوردته أعلاه. لكنني أتساءل عن الدوافع الإضافية التي حدت بالرئيس بوتين لاتخاذ قرار الانسحاب، بالنظر للكثير من الظن الذي ساد حول عدم القيام بهكذا خطوة بعدما أوجدت روسيا موطئ قدم لها على الأرض السورية محاولة استعادة هيبتها الدولية من خلال اللجوء إلى حلول عسكرية غير مجدية، ومحاولة استعادة الأمجاد الغابرة التي تلاشت عقب انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي بصفتها أكبر الدول التي كانت منضوية في عضوية الاتحاد.
ومما يبدو أن من أسباب الانسحاب الروسي المفاجئ على النحو الذي أعلن عنه، أن ثمة خلافاً بين روسيا وإيران حول مستقبل الحرب في سوريا، وعدم رغبة الروس في مزيد من التورط في الحرب إضافة إلى خلافات بينهم وبين النظام السوري حول مستقبل الأسد في العملية السياسية في سوريا، وربما طلبهم انسحابه من الحكم بصورة تدريجية إذا ما تم التوصل إلى وقف حقيقي لإطلاق النار، وبلورة حل دائم للازمة السورية، وهو ما يستدل عليه من تعاون الروس مع الأمريكيين في العمل على التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة السورية.
من أسباب الانسحاب أيضاً رغبة الروس في تركيز ثقلهم العسكري في الشرق الأوكراني، حيث تشير الأنباء على زيادة وتيرة التصعيد العسكري هناك، يضاف إلى ذلك الخسائر المعلنة وغير المعلنة في صفوف القوات الروسية المتواجدة على الأرض السورية، وعدم تحقيقها لأهدافها خلال المدة التي حددت لها، لأن القوات المعارضة للنظام السوري ما زالت تسيطر على مساحات كبيرة من الأرض في سوريا، ولم يتم دحرها بالمعنى العسكري على ما هو مرجح، وهو ما يعني الاستمرار في تعرض القوات الروسية لمزيد من الخسائر البشرية صفوفها، والعمل على إيجاد مصادر تمويل إضافية للحرب، تثقل كاهل الاقتصاد الروسي الذي يعاني من صعوبات جمة أصلاً.
كما لا يستثنى في الاعتقاد عدم الرغبة الروسية في الدخول في مواجهة عسكرية مع المملكة العربية السعودية بعيد إعلان المملكة عن استعدادها للتدخل البري في سوريا، وهو ناتج فيما يبدو عن رغبة الروس في المحافظة على العلاقات التي تربطهم بالمملكة سياسياً واقتصادياً.
لكن ما لا ينبغي عدم نسيانه وتجاهله أن روسيا تتمتع بقدرات عسكرية معروفة، وبإمكانها تحريك قواتها على وجه السرعة، متى ما أرادت أو ارتأى لها أن مصالحها تتعرض لمخاطر حقيقية في الأرض السورية أو غيرها، وذلك ما يجب أخذه في الحسبان، إذ يصعب توقع تصرفات الدب الروسي الذي تعودنا منه على المفاجآت في السنوات الأخيرة.