وولف.. ومادية الكتابة ">
كلما أنتبه إلى تساؤل وولف وقد أخفيت إدراكي له عن تأملي إياه، واتجهت إلى الوراء لأظل خلفي وأنقذ نفسي من تجاهلها، سيان أكان ألمي غامضاً أم كان واضحاً فلا أدّعي أنني ألم أناي فالألم ضرورة إبداعية. ولا يدركني قصد في ذلك، لا ورائي بعد، لا بعدي وراء سوى السؤال الذي تستند على مقصلته قسماً أكيداً إجابة منتحرة على موقد أنفاسها فتغني وولف سؤالها القائظ وهو يشتعل بـ: ما الذي يخلق كاتباً أو فناناً؟.. هل الموهبة والعمل الدؤوب بشكل رئيس؟.. وهل ستجد فنانة ذات موهبة حقيقية حرية للتعبير عن دوافعها وحاجاتها الداخلية، وتحقق النجاح في الفن؟
يدفعني ذلك الرأي لفرجينيا إلى الزعم المؤكد على مدى التاريخ الفكري بأنه: كلما تحرر الإبداع من الالتزام جاء تعبيره بمعناه المنشود وتعاملت معه الكتابة بحرية وهي تشرح دوافعها وكشفها ولا وعيها لها أولاً ولقارئها بعد ذلك وقبول ذلك منها يصل بالإبداع إلى مبتغاه وأبعاده الثقافية الإنسانية.
دأب الموهبة وعصيانها أبوتها الذكرية يحررها من وجدان مبدعها لتلقط حسها. وهكذا تتشكّل الخلية الإبداعية من أصالة الذات المتمرنة على العصيان للأبوة بنظامها الإبداعي المعتاد.
وها هنا تترتب فكرة جديدة بمجرد النفوذ إلى مدى الفضاء والاستبداد الحافل بالحياة الحرة والتأمل لها في قمة إطاريها العام والخاص. لذلك فإن الفرادة في تهميش مواقف لا تستحق الانقياد إليها إلا أن ترتقي إلى حصيلة الحلم الافتراضي المستقبلي وتتنسم الهواء الطلق في التنوير فستفوز بكونها ذاتها دون غيرها.
أما إذا انتهى المعنى الضمني للحكاية في تنوير وإضاءة سراب الراهن ولم يعتل الواقع بغير ما هو عليه فسينتفي في حدود الواقع كل مستطاع وممكن.
وعند وولف تعتمد الحرية الفكرية على الأشياء المادية. ويعتمد الشعر على الحرية الفكرية: (ظلت النساء على الدوام فقيرات، ليس فقط خلال مائتي سنة، وإنما منذ بداية الخليقة. ولم تتمتع النساء بحرية فكرية أكثر من أبناء العبيد في أثينا.. وبالتالي فإن النساء لم يمتلكن فرصة في كتابة الشعر.. وهذا هو السبب الذي جعلني أركز كثيراً على ضرورة المال، وغرفة خاصة بالمرء وحده).. فالمال يستطيع حسب قول وولف أن يُهيئ (القفل على الباب) الذي يبدو أن الكتاب الرجال يمتلكونه باعتباره حقاً لهم.. وقد مكّن المال النساء من الكتابة ما دمن يحصلن عليه بصورة مستقلة.
وتعزو وجهة نظر وولف حول تاريخ النساء الأدبي الازدهار في تأليف النساء كتباً، وهو أعظم تحولات الحياة، لا لسلطة التكنولوجيا الجديدة في الطباعة، وإنما لسلطة الاقتصاد: (إن النشاط الفكري الفعّال الذي أظهر نفسه أواخر القرن الثامن عشر بين النساء - الأحاديث، واللقاءات، والمقالات عن شكسبير، وترجمة الأعمال الكلاسيكية - كان قائماً على الحقيقة الراسخة من أن النساء استطعن الحصول على المال عن طريق الكتابة.. فالمال يضفي الاحترام حتى على تلك الأعمال التافهة التي لا يجري دفعه مقابلها).. ويمكن النظر إلى دائرة القراء التجارية، أو على الأقل فرصة الكتابة للأسواق تجارية، باعتبارها مصداقاً لتأليف النساء في عرض وولف للماضي الأدبي.
وبتأمل بسيط ليتجلى لنا واقع النشر الآن من خلال اعترافات وولف في غرفتها الخاصة حيث يبدو المال المسيطر الحالي على حركة النشر والتأليف وإيقاعهما.
- هدى الدغفق