هل وُكْد الكتابة هو التنوير أم التفكير ؟! ">
الكتابة باعتبارها تفكيرًا تنفع الكاتب أولًا قبل المتلقي أو القارئ ، لذا فإن الكتابة ليست تنويرًا ، بل إن التنوير يفتقد التفكير أثناء الكتابة ، والكاتب حينما يكتب و في ذهنيته أنه يحمل مشعل التنوير للآخرين فإنه ينحي التفكير جانبًا و يتعامل أثناء كتابته مع الحقائق ، فينطلق من الحقيقة التي يمتلكها ، و امتلاك الكاتب حقيقة كاملة ينافح عنها هو الداء الأول للتفكير .
هل التفكير يسبق الكتابة أم الكتابة تسبقه ؟!
التفكير و الكتابة يتوازيان و يتماسان في حالة الصفر عند وضع القلم على الورقة أو عند وضع الإصبع على لوحة المفاتيح ، و الإشكال الذي قد يقع فيه الكاتب/المثقف أن يجعل التفكير سابقًا للكتابة ثم ينبتُّ عنه إلى الأبد ، و هذا الانقطاع أو هاته الأسبقية للتفكير تُنبي عن حدّية بين الفكرة و كاتبها و هاته الحدّية تُنبي عن ترهّل في سيلان التفكير مما يحيلنا إلى مثقف/كاتب يحمل أفكارًا تعيش في دوائر متباعدة لا تتماس البتّة بحسب جمود التفكير و أسبقيته على الكتابة .
و لعل العلاقة بين الكتابة و التفكير هي مرحلة عظمى للمثقف ، بمعنى أنها مرحلة متقدمة تدل على ثراء معرفي و تفكير منهجي يتصالحان فتظهر من خلالهما هاته العلاقة الجدلية (التفكير/الكتابة أو الكتابة/التفكير) ، و بذا فإن التفكير و الكتابة منوطة بالثراء المعرفي الذي يجعل هاته العلائق جميعها نقطة صفر في العمق الكتابي و التحليل المنهجي لقضايا الفكر .
و قد ينتج عن عزل الكتابة عن التفكير أو تسبيق التفكير على الكتابة قد ينتج عنه صراع فكري عقيم غير مغني فكريًا و إنما هي طواحين تكرر طحن مادتها الأوليّة دون تجديد مستمر لمادة الطحن . و أيضًا فإن هذا العزل سيكون مخوّلاً بالتعامل مع الأفكار بانعزال تام بمعنى أنّ الكاتب/المثقف لا يتقن خلط الأفكار ببعضها و يُنتج منها فكرًا حديثًا يواكب آنيّته الفكرية ، فيتعامل مع الفكر الديني بمعزل عن الفكر السياسي و يتعاطى الفكر الفلسفي بمعزل عن الفكر الديني ، و يميّز الإشكالات الفكرية المعاصرة بناءً على معطيات ضيقة المدى ، و هذا الإشكال قد يكون هو الناتج الأعظم من عزل الكتابة عن التفكير ، كما أن عزل التفكير عن الكتابة سيؤدي بنا إلى فكرة عقيمة منبتّة بسبب عدم إخضاعها إلى حالات التفكير القبلية و الآنية و البعدية للكتابة ؛ لذا فإن الكتابة المعمقة هي التي تعتمد على التفكير ؛ و تجعل من التفكير محفزًا لها بل و هدفًا لها ؛ و بذا نستطيع أن نقول إن الكتابة الأكثر نجاعة هي (الكتابة المفكرة) ؛ و التفكير هنا مرتبط بالكاتب/المؤلف ؛ و هناك تفكير يرتبط بالقارئ/المتلقي و قد أفردت له مقالًا بعنوان (القراءة من التثقيف إلى التفكير) .
أزعم أن بتر الكتابة عن التفكير يولد لنا وثوقيين فكريًا أكثر من إنتاج المبدعين فكريًا ؛ فيضحي الكاتب بين خطين و ثنائيتين ( المدافع و المهاجم) ؛ و تتخطّفه الأدلجة المعتمدة على الثنائيات الفكرية ؛ فيتحول الكاتب من مفكر في كتابته إلى مدافع عما يكتبه ، و هنا نقع في إشكال الكاتب المؤدلج وإن كان يدعي الليبرالية و التنوير .
- صالح بن سالم