مع أذان العصر بالمسجد المجاور للنزل قمت وأيقظت الأولاد لنستعد لمقابلة أبو يزيد للذهاب لوادي مطر لمشاهدة الغزال الفرساني، وحسب ما تم الاتفاق عليه فقد وصلنا لمفرق القرية السياحة لقرية القصار حوالي الخامسة عصراً أخذنا أبو يزيد إلى القرية القصار وهي مبنية من الحجر المرجاني، ولخبرة صاحبنا فقد لف بنا حول القرية السياحة والتي شيدت على جزء بسيط من قرية القصار القديمة ليرينا المباني القديمة المهدم أجزاء من وبها مزارع النخيل، وحقيقة إن شكل المباني وكبر حجم الحجارة التي أستخدمت في بناء هذه القرية ليدل على حضارة وقوة وعزيمة أهل فرسان، وقد ذكرها شعار فرسان ومن ذلك:
في وقت السلا أرى الناس يسلون من سلاك
وأنا أفرح مع هرجتك والهم لي يزيل
تمشي قي القصار وفرٌج عينك معا خلاك
وقت الطارفة تفرج والناشية تميل
سار بنا صاحبنا في أزقة القرية ببطئ شديد حتى يسمح لنا لرؤية المكان وأيضاً ليتجول بناظريه عله يرينا الغزلان الفرسانية التي تأوي للمزارع القديمة بالقرية خلال فترة الظهيرة للاختباء من لهيب الشمس الحارقة، وما هي إلا لحظات حتى بدأت الغزلان بالظهور من بين شجيرات السمر لتنظر بعضها إلينا لبرهة ما تلبث أن تبتعد بعيداً عن مسار السيارة بطريقة بقفزات بهلوانية وكأنها تقدم لنا رقصة من الطبيعة جعلت الأولاد ونحن معهم ننظر إليها وكأننا وجدنا كنزاً فالكل ينظر والغزلان الفرسانية تتقافز من حولنا، لقد كان شعوراً لا يوصف أحسسنا فيه بجمال هذا المخلوق وكم كانت ألوانه متناسقة مع المكان، فكل شيء حوله متناغم، عندها تحدثت للأولاد وقلت لهم أتعلمون يا أبنائي إن الدراسات الجينية لهذا النوع من الغزلان تشير إلى أن الغزال الفرساني متوطن بهذه الجزيرة ولا يوجد إلى عليها وهذا يشعرنا بتميز بلادنا فوجود كائن جميل وفريد من نوعه على تراب الوطن يشعرك بتميز لوطنك، وحقيقة إن جهود الهيئة السعودية للحياة الفطرية لحماية هذا الإرث الفطري الذي حباه الله لهذه الأرض المباركة بين وواضح فبقاء هذه الظباء بعد أن انقرضت أنواع أخرى بسبب الصيد الجائر كما أن عمل أبناء فرسان مع قوة الحماية أعطى قوة لحماية هذا النوع كما ساهم من خلال توظيفهم إلى تحسين الظروف المعيشية لبعض سكان أهل فرسان الكرام. وبينما نحن ننظر لهذه الغزلان فإذا بالأولاد ينظرون للسماء صارخين ما هذه الطيور المحلقة بالسماء، نظرت باتجاه الموقع الذي جلب أنظار الأولاد عندها، فإذا هي الرخمة المصرية أو النسر المصري عندها تحدثت مثنياً على الأولاد على تسجيلهم لهذا الطائر وأخبرتهم بأنها من الطيور المهددة بالانقراض ليس في بلادنا فحسب ولكن بالعالم أجمع، والمجموعات المعششة في جزر فرسان أعطت المنطقة أهمية أكبر لتكون أحد أهم المناطق للطيور بمنطقة الشرق الأوسط، وقد عرفها العرب وأطلقوا عليها العديد من الأسماء ومنها الأنوق حيث شبة استحالة حدوث الشيء أو الوصول إليه أو كتم الأسرار بموقع أعشاش الرخمة لصعوبة الوصول إليها فيقال «أبعد من بيضة الأنوق».
وللنسر المصري تسميات وكنى أخرى عند العرب فعرف بأم جعران وأم قيس وأم كثير، والرخمة المصرية من الطيور الذكية لاستخدامها أدوات للحصول على غذائها، فذكاء الحيوان يقاس بمدى استخدامه للأدوات، حيث لوحظ قدرتها على استخدام الحجارة كأداة لكسر بيض النعام وهذا يعتبر تطورا في السلوك، فهي تقوم بحمل الحجر بمنقارها ومن ثم قذفه على البيضة لكسرها أو إحداث ثقب بها للحصول على المادة الغذائية بداخلها. ويتميز البالغ منها بلونه الأبيض وأطراف أجنحة سوداء وبمنقار ووجه أصفر وسواد بمقدمة المنقار ويختلف لون الفرخ في سنته الأولى والثانية حيث يتميز بلونه الأسود. وما هي إلا لحظات حتى وصلنا إلى شبك لمنطقة وادي مطر الأثري والذي يحوي صخوراً كبيرة على بعضها بعض الكتابات الحميرية تعود إلى عصور ما قبل الإسلام.
كان الوقت لازال مبكراً على الغروب فقررنا الذهاب لساحل عبره وهو من المناطق المفضلة للتخيم لأهل فرسان ويقع في الجنوب الغربي من الجزيرة، وفي الطريق سجلنا عددا من الطيور البرية منها الهدهد والقبرة الهدهدية وهذا الأخير من الطيور العزيزة على قلبي فصوت غنائه ورقصاه البهلوانية أيام التزاوج فيه من العذوبة من الجمال الذي غنى به الشعراء، وعرف عند العرب بطائر المكاء فهذا أحمد بن زياد بن أبي كريمة و هو من معاصري الجاحظ ،يصف أطلال الحبيب بعد أن أصبحت خالية لا يسمع فيها إلا صفير المكاكي و صرير الجنادب قائلاً:
كأن بها ذعرا يطير قلوبها
أنين المكاكي أو صرير الجنادب
توقفنا أمام الشاطئ لنشاهد غروب الشمس وهي تختفي في زرقة الماء لتنهي يومنا الأول على هذه الجزيرة من وطننا الغالي، لنعود للنزل لنستعد للرحلة البحرية في صباح اليوم التالي.
كان صوت المؤذن لصلاة الفجر من أيقطنا من سباتنا فقد كانت ليلة هادئة خلدنا فيها للنوم مبكراً وبدون عشاء فغذاء الأمس البحري بالفعل لا ولن ينسى، الجميع مستيقظ، وبعد الصلاة انشغل كل واحد في عمل فذلك يجهز أدوات التصوير والآخر ينظف نعليه وأنا وأخي عبدالله ولجنا للمطبخ لتجهيز وجبة الإفطار وبعض السندويتشات والعصيرات والماء للرحلة البحرية وما هي إلا أقل من نصف ساعة حتى انطلقنا إلى مرفأ الصيادين بالقرب من ميناء فرسان لنجد صاحب القارب ويدعى عيسى (أبو شوعي) ينتظرنا وقد جهز قاربه بفنيلته البيضاء وفوطته الداكنة الألوان واقفاً منشداً أهجوزة شعبية بلكنته الفرسانية:
يا الله صباح الخير
يالله صباح الخير
أول صلاتي على النبي
رزقك على الله ياطير
يا الله صباح خير
يا ربنا يا رب
رزقك على الله يا طير
يا الله صباح الخير
يا رازق الإنسان
رزقك هلى الله يا طير
يا الله صباح الخير
ما هي إلا لحظات بعد أن أنهينا إجراءات خروجنا للبحر من حرس الحدود حتى أخذ كل منا مكانه بالقارب، ليسكت الجميع ويبقى صوت محرك القارب ومع تسارع حركة المحرك لتعلن بداية الرحلة، أخذ كل منا مقعده بالقارب وبدأنا نستمتع بتيار الهواء البارد على أجسادنا ليخفف عنا الحرارة والرطوبة العاليتين التي تشتهر بها سواحل البحر الأحمر في مثل هذا الوقت من السنة.
كانت أول محطاتنا الجزر المرجانية القريبة من ميناء فرسان حيث يعرف تعشيش عدد من الطيور البحرية فيها، صحيح أن موسم التكاثر لم يبدأ بعد لكن هناك طيورا قد بدأت بالتعشيش، منها الأطيش البني وهو من الطيور التي عرف عنها أنها تتكاثر طوال العام مع وجود فترات ترتفع فيها وتيرة التكاثر لتصل ذروتها في شهر يوليو. والأطيش البني لا يمكن أن نخطئه فلونه البني المغطي لمعظم أجزاء جسمه ماعدا منطقة البطن فهي بيضاء حتى أن بعض علماء الطيور يطلقون عليه الأطيش ذا البطن البيضاء.
توقف القارب بالقرب من الجزيرة وأطفأ أبو شوعي المحرك وبدأنا ننشد توازننا فوق القارب الذي تلطمه أمواج البحر وأخذنا نتأمل هذه الطيور من خلال مناطيرنا المقربة، وكسر صوت أخي عبدالله متحدثاً عن هذا النوع قائلاً: أتعلمون يا أولاد أن السلالة (التحت نوع) من الأطيش البني الموجودة بالبحر الأحمر وخليج عدن من أكبر السلالات حجماً وأكثر قتامة، كما أن الأنثى أكبر من الذكر، وخلال موسم التكاثر يظهر في الذكور لون أزرق على قاعدة المنقار وبالقرب من العين، أما الفراخ الحديثة الفقس فتحمل ريشا أبيض خفيفا يعرف بالزغب يتغير مع نمو الفراخ، وتضع الأنثى عادةً أكثر من بيضة، لكن لا يبقى مع الأبوين إلا فرخ واحد، ففراخ هذه الطيور شرسة مع الفراخ الأخرى خاصة من يفقس الأول فهو من سيعيش بإذن الله حيث يقوم الفرخ الأكبر بنقر إخوانه الصغار ليتخلص منهم وليبقى هو منفرداً بغذاء وحنان والديه.
لم نمكث طويلاً على هذا الحال فموج البحر يحرك القارب ويدفعه باتجاه منطقة شعاب مرجانية، فكان علينا أن نتحرك بالرغم أن منظر الأطيش البني وصغيره أمامنا على الجزيرة وصفاء ماء البحر من تحتنا ترى فيها الأسماك الزاهية الألوان تسبح تحت القارب يشعرك برغبة بالبقاء على هذا الحال، لكن علينا الإسراع للعودة مبكراً للحاق بالعبارة والتي ستعود بنا إلى جيزان، وبالفعل بدأ صوت المحرك يكسر هدؤء المكان وكانت وجهتنا أحد الجزر الرملية والتي يمكننا أن ننزل عليها ونسير على أقدامنا ونشعر بالبحر والساحل الرملي، وبالفعل تحرك القارب ومررنا بالقرب من جزيرة هندية لنتوقف قليلاً عندها فقد كان هناك عدد من الطيور البحرية كان من بينها طائر يطلق عليه بالعربية الأبله البني كان يقف على صخرة بطرف الجزيرة المرجانية والتي تعرف بهندية اقتربنا منه لتصويره وهو واقف بدون حراك وكأن هموم العالم على ظهره حتى لم يبقَ بيننا وبينه مسافة مترين ... نظر إلينا نظرة لا مبالاة ليعود كما كان شارد الذهن ليعود وينظر مرة أخرى إلينا وكأنه استوعب أخيراً الموقف الذي يواجهه فطار سريعاً مبعداً عنا ليلحق بالطيور الأخرى التي طارت منذ أن لمحتنا نقترب من الجزيرة.
وما إن اقتربنا من الجزيرة الرملية حتى خف صوت المحرك وتباطأت حركة القارب وتوقفت تلك النسمات الباردة التي كانت تضرب أجسادنا وبدأنا نشعر بحرارة ورطوبة المكان وما أن توقف المحرك حتى بدأ صمت رهيب يخيم على القارب فيما عدا صوت الطيور على الجزيرة وصوت الأمواج المرتطمة بالقارب...وما هي إلا لحظات حتى كسر صوت عمران (ابن زميلي عبدالله) يصرخ ..ما شاء الله ويش هاذي الطيور الكثيرة على الشاطئ...نظرنا بالمناظير المقربة فإذا هي جمع من الطيور وكان من بينها أعداد كبيرة لطيور النورس أبيض العين وهو من أهم الأنواع الذي يقتصر وجودها وتعشيشها بالبحر الأحمر وخليج عدن، أخدنا نقترب ببطء من للشاطئ وما أن وصلنا حتى نزل الأولاد يتسابقون للوقوف على أرض الجزيرة بعد أكثر من ساعة من الجلوس على أرضية القارب الصلبة وكأن خروجهم من القارب يأذن بانطلاقة لمعرفة المزيد عن هذه البقعة من بلادنا الغالية.
تجمعنا بالقرب من القارب وقام أخي عبدالله بتقديم التحذيرات حتى لا نفزع الطيور فتبتعد لذا كان علينا الحذر والنظر عن بعد والابتعاد سريعاً في حالة طيرانها، وبالفعل اقتربنا من تجمعات الطيور كانت المجموعة الأولى بها أعداد كبيرة من النورس الأبيض العين والنورس الأسحم، وكانت فرصة للأولاد للتفريق بينهما فالنورس الأسحم أكبر حجماً ويمتاز بمنقاره السميك الأصفر اللون مع وجود بقعة حمراء في مقدمته، أما الأرجل فصفراء زيتونية، أما الجسم فلون رأسه بني قاتم وكذلك منطقة الصدر أما بالنسبة للنورس أبيض العين فحجمه أصغر ومنقارة أقل سمكاً من منقار النورس الأسحم كما أن لونه أحمر مع سواد في مقدمته، ومن أهم ما يميز النورس أبيض العين الشكل الهلالي الأبيض أعلى وأسفل العين وومن هنا جاء اسمه «النورس أبيض العين» ، في خضم هذا المشهد لفت انتباه الأولاد أحد السرطانات وهو يتغذى على الطحالب على إحدى الصخور المنتشرة حول الجزيرة. ومن الطيور الأخرى التي شاهدناها خرشنة بحر قزوين والتي تتميز بمنقارة السميك الأحمر اللون وهي من أكبر طيور الخروشنة المعششة في البحر الأحمر والخليج العربي، كذلك الخرشنة المتوجة الصغيرة والخرشنة المتوجة الكبيرة وعدد لا بأس به من طيور الخرشنة المقنعة والخرشنة بيضاء الخذ واللذان وصلت مجموعات منه لتستعد للتزاوج على هذه الجزيرة.
ومن أجمل ما شاهدنا على الجزيرة كان سلوك أنثى طائر الزقزاق الإسكندراني وهي تصدر أصواتاً وتسير وكأنها مصابة لجذب انتباهنا للابتعاد عن مكان صغيريها واللذان كانا تحت الشجيرات، كم أثر فينا هذا المنظر فهاهي الطيور تعلمنا درساً في الرحمة وتعرفنا على سلوك للدفاع على صغارها، ولا أدري كم مضى علينا من الوقت ونحن والأولاد نستمتع برؤية هذه الطيور، ولكن إشارة الساعة الحادية عشر تنذر بموعد مغادرنا للجزيرة، فبدءنا رحلة العودة للقارب والتي كانت أصعب مرحلة على الأولاد فقد ارتفعت حرارة الشمس ونفذ الماء المحمول معنا والكل يتلهف للوصول للقارب للحصول على شربة ماء تروي به ظمأه وبحق كان الوصول للقارب يحتاج لجهد مضاعف مع المشئ على الشاطئ الرملي المرتفع درجة الحرارته، وصلنا للقارب وقد ظهر الإعياء على الأولاد فكانوا يمشون وكأنهم يسحبون أجسادهم سحبا، وما أن وصلنا للقارب وصعد الجميع القارب وأخذ كل منا مكانه متشوقين متعطشين لشرب الماء البارد طالبين من أبو شوعي التحرك سريعاً للحصول على تلك النسمات الباردة مع حركة القارب لتخفف عنا حرارة الجو المرتفعة والرطوبة العالية، لم نأخذ وقتاً طويلاً في العودة فقد سار بنا القارب مباشرة لميناء فرسان لنستقل سيارتنا بعد أن شكرنا أبو يزيد العم شوعي لنذهب للفندق لنغتسل ونغير ملابسنا سريعاً ونجهز أمتعتنا لنلحق بالعبارة التي تنطلق عند الساعة الثالثة عصراً، وما هي إلا ساعتين ونحن نستقل العبارة مرة أخرى للعودة إلى جيزان ومن هناك بدأت رحلة عودتنا إلى عروس البحر الأحمر جدة حاملين معنا أجمل الذكريات قضيناها والأولاد على أرض فرسان والتي هي بحق جنة لمن يرغب مشاهدة طيور الوطن البحرية وكلنا شوق ورغبة للعودة مرة أخرى لهذه الجزيرة لنتعرف على الطيور المعششة بجزر فرسان ولنروي فيها عشقنا الأبدي لأرض الوطن وطيوره.
أ. د. محمد بن يسلم شبراق - عميد شئون المكتبات بجامعة الطائف - مستشار غير متفرغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية