عفلقةٌ ">
في مكتبة المنزل، كان عزيز يقلب في كتب والده القديمة، تجاوز المعاجم والمجلدات البائسة وكتب التراث المشكوك في أمرها، وصل إلى زاوية في المكتبة ولم يشعر بنفسه إلاّ وقد مدت تلك الزاوية إليه نحرها، كان يلمع في ذلك النحر عدة مجلات عليها سمات التشرد والتيه، مرر يده على أغلفتها فاقشعر جسدها وأصبحت عطسات عزيز حينها دون مشمت.
بعد أن استقر الحال، سحب عزيز ما نضح من الرف، أخذ أولى غنائمه، وشدته عبارات غريبة لم يسمع بها قط منذ أن عرف نفسه. وحدة-حرية-اشتراكية كانت جملة رئيسية على غلاف المجلة مدونة تحت اسمها التقدمي. فتح عزيز أولى صفحاتها فمُزق جزءًا منها، كانت بالية لدرجة القابلية للتحلل.
وجد في الصفحة الأولى كلمة رئيس التحرير، مرر عزيز نظره بسرعة على الأسطر فلم يجد غير عبارات مكررة قوى الظلام- المجد للفقراء- البوليتاريا- العمال والفلاحين... ووجد عبارات قليلة مزجت بتلك العبارات المكررة الأمة العربية- بترودولار- عفلق... لم يعر عزيز اهتماماً لكل تلك الدواليب لأن صرخاتها كانت بحناجر غير مؤمنة، هكذا رآها أو على الأقل أحس بها.
تجاوز كل ذلك الضجيج وفتح عدة صفحات جملة واحدة، فقط ليلقي نظرة سريعة على مكنون حناجر المجلة، تفاجأ بصورة أحد الزعماء وقد أطل عبر وجهين من المجلة، لم تستمر تلك الدهشة لأن صفحات المجلة قد زادت تمزقاً وتشعباً أطول من ذي قبل.
حاول عزيز مداراة الصفحات بأصابعه ولكن الصرخات التي دُونت تحت صورة الزعيم أنسته أمر الصفحات الممزقة فما كان منه إلا أن أسقط المجلة من يده لكي يتفادى تشعب المشكلة. عندما ارتطمت المجلة بالأرض تقلبت بعض الصفحات بسبب تيار الهواء الصادر من مكيف المكتبة، واستقر بها الحال إلى صفحة ضمت زعيماً عربياً آخر، كانت صورته في صفحة واحدة بخلاف الزعيم السابق وكانت تلك الصورة أقل وهجاً من سابقتها وأقل صراخاً من ذي قبل..
رغم أن حنجرة القلم التي دونت مفاخر الزعيم كانت أقل صراخاً إلا أن صفحات المجلة ازدادت تمزقاً. رفع عزيز المجلة عن الأرض وذهب إلى كرسي في عمق المكتبة، جلس وأكمل التصفح في حذر شديد، وجد زعماء عرباً أقل وهجاً وإطارات صور أصغر حجماً، وصرخات تزيد هنا وتخفت هناك. مرر عزيز ما تبقى من صفحات المجلة بسرعة فتطاير ما تبقى في جوف المجلة من أتربة إلى الفضاء، مما جعل من أنف عزيز ألعوبة بيد ذرات الغبار تلك. في إحدى العطسات شعر عزيز بالمجلة وهي تتناثر من بين يديه فلم يحفل إلا بأنفه، وعندما استقر الحال مرة أخرى شده منظر صفحات المجلة وهي منثورة بين قدميه ويخرج من بين صفحاتها أصوات احتكاك الورق ببعضه، دقق عزيز نظره فإذا بصور الزعماء قد تناثرت بسبب تيار الهواء في أرجاء المكتبة مع بعض الصفحات التابعة، كل صورة أخذت طريقاً مغايراً لطريق أختها..وقف عزيز في وسط المكتبة والصور تواصل السير إلى المجهول، بعد ثوان من الصمت اقتحم والد عزيز المكتبة ولم يعر ابنه أي بال، تناول جهاز التحكم التلفزيوني بسرعة وقام بإيقاف سيل المحطات على سد قناة إخبارية كانت أقل أخواتها شروراً، كان منظر الشاشة أكثر وهجاً وأصدق صراخاً مما قد أحس به في المجلة.
(إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر..
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر)
تقاربت الصفحات بسبب التيار المعاكس لتيار المكيف الذي صدر من باب المكتبة المفتوح، تجمعت كلها أمام الشاشة وكأنها ترمق التاريخ، أتت صفحة من ناحية الكرسي تزحف زحفاً وتوقفت عند صور الزعماء ثم انقلبت على ظهرها وكأنها تودع الحياة، اقترب منها عزيز ورأى ذات العبارة التي قرأها مسبقاً:
وحدة-حرية-اشتراكية..
- محمد مانع الشهري