عبدالله بن سعد العمري ">
لعلي بداية أعرف التطوع بأنه أداة أخلاقية يحبها مقدم الخدمة والمستفيد من الخدمة معا، إنها المادة الخام الأخيرة من أخلاق الإنسان التي بثها الله في نفوس عباده، وهي بلا شك تدلنا إلى نبل المسافات بيننا وبين القرون الماضية، فهي من بعض نوادر المشتركات النيرة بين اليوم والأمس والغد.
لقد كان التطوع الصائب خيرا دائما، فقوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}، دلالة أخرى أن التطوع موجود من مسافات بعيدة في الزمن، فقد كانت صفةً تلازمتْ والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. ويأتي العمل التطوعي اليوم لينساق وراء مفاهيم جديدة تؤيد ما تحثنا عليه نفوسنا الخيرة من مساعدة المحتاجين وخدمتهم والوقوف على أمورهم. إلا أنها قد تمتد إلى مساعدة الدول والحكومات والشعوب حتى وإن كانت ظاهريا لا تحتاج لذلك.
ففي أمريكا وجدت أن العمل التطوعي يتوافر لمحبيه أكثر من فرص العمل وقاعات الدراسة وكراسي اللعب. وهو محبوب جداً لدرجة أن في أمريكا وحدها أكثر من مليون ونصف منظمة تطوعية. بل يوجد أكثر من 62 مليون شخص يوفرون أكثر من 8 مليارات ساعة عمل تطوعي في العام الواحد، وهذا الجهد الذي يتطلب فقط خمس ساعات أسبوعية من الفرد الأمريكي يوفر ما في مجمله مئة وثلاثة وسبعين مليار دولار في العام الواحد من مجموع الناشطين فيه الذين يشكلون خمس سكان الولايات المتحدة. وزيادة على ذلك، أثار انتباهي أن العمل التطوعي موجود في أمريكا منذ ما يقرب 300 سنة، فقد أنشأ بنجامين فرانكلين أول فرقة إطفاء من المتطوعين في عام 1736 م، حسب ما جاء في مقالة «روح التطوع» للكاتبتين سوازن جاي وإليس كاثرين في مؤلفهما الشهير تاريخ الأمريكيين في العمل التطوعي. وتضيف الكاتبتان أن الأمريكيين يتطوعون ليس بسبب الإكراه أو تحقيق الربح، بل لأنهم يشعرون بوجود حاجة للتطوع، وأنهم يريدون الاضطلاع بمسؤوليتهم في هذه الحاجة! وتختتم الكاتبتان مقالتهما بالتصريح بمفاجأة أن الأمريكيين لم يفكروا أبدا في الدور الذي يلعبه العمل التطوعي في المجتمع الأمريكي، فلم يسألوا أنفسهم: من يتبرع بالدم؟ ومن يحمي المعالم التاريخية؟ ومن يشغل محطات الإذاعات الخاصة بطلب نداء الاستغاثة؟ إنه بالتأكيد جزء صغير من دورهم الكبير.
ومن هذه البيئة التطوعية المتوافرة، فقد برز لدينا من المبتعثين رواد للعمل التطوعي في مدن عدة، وكنت أثير دوما سؤالا في نفسي، ما فائدة كون المبتعث السعودي مركزا دوما على دراسته دون الإلمام ببعض جوانب الخير في بلد الابتعاث؟ ليعود إلى وطنه وقد حمل الشهادة في يد، والخبرة في اليد الأخرى، وكان من أروع هذه الأمثلة تلك التي دعانا إليها المبتعث السعودي خلف الحربي، حيث يشغل رئاسة اللجنة الأكاديمية في المركز الإسلامي بمدينة بلومنغتن بولاية إنديانا، لكنه فاجأنا بفكرة رائدة عن سابقيه وهي نيته التعاون مع كنيسة مجاورة لإطعام المشردين كواجب ضيافة من المركز الإسلامي، وقد اتجهنا بطعامنا في اليوم المحدد لنتفاجأ بعدد هائل من المشردين الذين يبدو وأنهم لأول مرة يتعرفون إلى الإسلام عن قرب، وكان اللقاء شمعةً أضاءت صدري حينما رأيت تطوعنا وهو يمثل ديننا وبلدنا المملكة العربية السعودية، كما كان من المفاجئ لي أن فريق العمل بالكامل هو من المبتعثين السعوديين، وهذا يؤكد لنا وجود توافق في العلاقات الرائعة التي تجمع الشعبين السعودي والأمريكي، فقد كانوا يسألوننا بحماس عن المملكة وكنا نجيب بالتأكيد. صادف كذلك أن رأيت مبتعثاً سعودياً لدراسة القانون يعرفه أكثر من متطوع أمريكي في المدينة، لأعرف بعد ذلك أن هذا الشاب يسخر جزءا كبيرا من وقته بين ثلاثة أماكن للعمل التطوعي، فهو يشارك بجسمه النحيل مع متطوعين آخرين في بناء منازل للفقراء، ومع آخرين لإدخال بيانات وإحصاءات للفقراء الجدد، والذي يعين ذلك الحكومة والمنظمات الخيرية لإيصال المساعدة إليهم، كما يتطوع في الإطعام وتقديم المساعدة. إن هذين الشابين بلا شك نموذجان رائدان للمبتعث السعودي بالولايات المتحدة، بل ويستحقان لقب سفيرين للمبتعث الناجح.
وأخيرا, فمما يجدر به القول: إن الحاجة تزداد يوما بعد آخر للترويج للعمل التطوعي في المملكة على أنه عمل مقدس يحث عليه الدين والنفس القويمة، وأن يكون هناك خطة إصلاح شاملة في مجال التطوع توفر لمن يريد المساهمة بوقته حرية تطوعه في أي وقت، كما يكون من الجيد الإفادة من خبرات شباب سعوديين رائدين في العمل التطوعي كالشاب السعودي محمد النحيت الذي عرف شغفه بالعمل التطوعي في الرياض، ومن مبادرة متطوعي الرياض التي يشرف عليها، حيث رسالتها خدمة الوطن ومدينة الرياض تحديدا عبر أفكار شبابية رائدة يقوم بها أعضاء هذه المبادرة في مجال العمل التطوعي السعودي.