يُعتبر التعليم الركيزة الأساسية التـي تنطلق منها الشعوب، والعنصر الأساسي لصناعة التنمية والإعداد للمستقبل. ولا شك في أن كل الدول - بما فيها المتقدمة - تعاني من مشاكل في المنظومة التعليمية، ولكن بدرجات متفاوتة. والمشكلة الكبرى في الدول النامية التي أصاب جسمها التعليمي أمراض عضال، سواء في الإدارة أو المناهج أو نظم الامتحانات.. إلى آخره، ومن ثم مستوى متدن من المخرجات التعليمية.. تظل المشكلة الكبرى والعلاج في الوقت نفسه في إعادة المدرسة أو المؤسسة التعليمية لقيمتها ودورها التنويري في المجتمع.
إن المدرسة هـي الهيكل التعليمـي الذي يعبّر عن النظام التعليمـي رسميًا، ويقع على كاهلها مسؤولية بناء الإنسان الذي هو ركيزة أي تحديث فـي المجتمع. فالإنسان أداة هذا التحديث وغايته، كما تبرهن علـى ذلك تجارب الدول التي حققت التحديث، وعلى رأسها التجربة اليابانية (أول تجربة لدولة غير أوروبية أثبتت أن التحديث ليس حكرًا علـى الغرب فقط، وأنه بالإمكان أن تحقق دولة شرقية التحديث دون التفريط فـي التراث والتـقاليد، وتبرهن على أنه لتحقيق التحديث فـي زمن وجيز لا بد من تحقيق التحديث فـي قطاعـي الإنتاج الصناعـي والعسكري؛ لتوفير كوادر متعلمة مدربة، لها قدرات ذات فاعلية، تستطيع استخدام التجهيزات والتقنيات الحديثة). فالزائر لليابان لن يجد أية صعوبة فـي أن يلمس سريعًا المستوى المتميز فـي جميع مظاهر الحياة: العامل فـي مصنعه الذي يستطيع أن يفهم الخرائط والرسوم التوضيحية والنشرات والتعليمات، والفلاح فـي حقله، والحرفـي فـي ورشته.. وهكذا، قوى عاملة مدربة ومنتجة بشكل متميز، ومتمتعة بإخلاص وتفان فـي العمل.
وعلى العكس من ذلك، نرى في معظم الدول النامية مستوى مهارات وقدرات الخريجين ضعيفًا ومتدنيًّا، ولا يتناسب مع احتياجات التنمية، بل امتد مستوى الضعف إلى عطب في سلوكيات البعض في هذه الدول، وضيق أفق أدى إلى التطرف والإرهاب وإقصاء الآخر. ومن هنا تأتي الضرورة الملحة والمصيرية لإصلاح التعليم، وعودة المدرسة لدورها الريادي.
أصبحت المدرسة بعد شروع اليابان في تأسيس نظامها التعليمي عام 1872م أداة الحراك الاجتماعي، ومفتاح الوصول لتحسين الأوضاع الاجتماعية، وأصبح أبناء الشعب يطمحون لدخول المدرسة لقناعتهم بأنه من خلال التعليم والتخرج فـي المدرسة سيتغير المجتمع، وسيتحسن مركزهم الاجتماعـي. وأصبح يُنظر لتعليم البيت والأسرة علـى أنه تابع ومكمل لدور المدرسة. وتكوين واكتمال هذه العلاقة بين البيت والمدرسة كان أحد العوامل المهمة التـي عملت علـى نجاح عملية التحديث فـي اليابان. وأصبحت المدرسة بالفعل مؤسسة تعليمية، أسستها الدولة من أجل الدولة، وتم إخضاعها لإشراف الدولة وإرادتها. أي بعبارة أخرى: كان نموذج المدرسة فـي اليابان فـي تلك الفترة من أعلـى؛ الأمر الذي صبغ طبيعة المدرسة بصبغة حكومية وليست شعبية، وأصبحت المدرسة تأخذ الشكل العام أو الحكومـي. ولكن هذا لا يعنـي أن الأيديولوجيات والمعرفة كانت تحت رقابة وسيطرة الدولة بالقوة؛ فالأفكار الغربية قد تم إدخالها ولكن بعد القيام بعملية تنقيح لها من خلال فلتر (مصفاة) الثـقافة التـقليدية اليابانية، وهـو ما يُعبر عنه شعار واقون يووصاي-Wakon Yoosai، أي الروح اليابانية والتقنية الغربية. فاليابان استطاعت آنذاك أن تنتقـي ما يناسبها من النظم التعليمية الغربية المختلفة بما يتفق معها علـى أساس الموروث الثقافـي لها، فجاء نظامها متميزًا ومتفردًا؛ يجمع بين الروح اليابانية والأفكار الغربية.
وكان تميز المدرسة يُمثل نوعًا من الفصل بين مفهومـي العام والخاص. فالاعتماد علـى هذا الفكر المتأصل فـي الثـقافة اليابانية هو الذي أعطـى الأولوية للمدرسة؛ كونها تحمل المفهوم العام مقابل التعليم بالبيت والأسرة؛ كونه المفهوم الخاص. فمن الناحية الشكلية، الأولوية للأسرة، ولكن من الناحية الفعلية، الأولوية أكثر لمفهوم العام. فمثلًا، غياب الطالب عن المدرسة لظروف عائلية يُعتبر أمراً خاصًا، أما إعفاء الطالب من المساعدة فـي أعمال البيت أو الأسرة لوجود امتحانات أو واجبات منزلية، أو حصول الطالب علـى إذن بالتغيب عن البيت من الصباح حتـى المساء للمشاركة فـي أنشطة لاصفية بالمدرسة، فيُعتبر أمراً عامًا، وهذا من شأنه أن يعلم الطلاب تفضيل العام أي المدرسة، ومن ثم المجتمع والوطن، عن الخاص أي البيت والأسرة. وهذه الخبرة تظل مع الطلاب عند التحاقهم بالعمل أيضاً. وتَميُّز المدرسة فـي اليابان لا يرجع فقط لطبيعة كون المدرسة ذات طبيعة عامة من أعلـى، بل كذلك لوجود قناعة بقيمة المدرسة من قِبل الذين يتلقون التعليم في المدرسة، وأولياء الأمور الذين جعلوا هؤلاء الأبناء ينتظمون فـي الذهاب إلى المدرسة.
كانت المدرسة في اليابان - وما زالت - مصدرًا لتعلم المهارات والمعارف الجديدة، إضافة - بالطبع - إلى المؤسسات التعليمية الأخرى التي يُمكن فيها اكتساب مهارات أخرى، تناسب التغير التقني المتسارع. ومن الطبيعـي أن يكون المعلم متفوقًا عن الآباء فـي مؤهلاته الدراسية، وأن تكون بناية المدرسة مصممة علـى الطراز الحديث أكثر من أي بناية أخرى، ومحتوى التعليم الذي يُدرّس فـيها يفوق أفق ومعارف هؤلاء الآباء؛ ولذلك تعتبر المدرسة بمنزلة الرمز للجديد، ومركزًا ثقافيًا للحـي الذي تقع فيه. وفـي المقابل، كان يُنظر للبيت علـى أنه مكان يحمل فـي طياته القديم، وأنه لا بد من أن يدخله التنوير من خلال المدرسة. وكان البيت والمجتمع يتطلعان إلى هذا الدور التنويري من المدرسة. فالأطفال أنفسهم كانوا ينجذبون أكثر إلى ما يتعلمونه من المدرسين؛ لما فيه من دراسة ومعرفة بالجديد، أكثر مما يسمعونه من معلومات من آبائهم.
وعليه، نخلص إلى أنه لا بد من إعادة المدرسة إلى رونقها ودورها الريادي التنويري في المجتمع، من خلال فكر متسق، يجعل المدرسة والعملية التعليمية واكتساب المهارات والمعارف عملية جادة. فتغييب المدرسة، واستبدالها بمراكز الدروس الخصوصية، أو اختزال التعليم في عملية لا تتعدى الكتاب المدرسي، والتلقين والحفظ، لن يحقق الهدف المرجو من العملية التعليمية في بناء شخصية إنسان يستطيع الفهم، والإدراك، والتفكير، والتعلم المتواصل، وقادر على المشاركة وتحمل المسؤولية، والارتقاء بمجتمعه، متحليًا بمختلف المهارات والمعارف والسلوكيات الراقية. فالهدف من التعليم ـ كما قال - ألبرت أينشتاين: ليس تعلم الحقائق، إنما هو تدريب العقل على التفكير. وكذلك كما قال المربي الإيطالي فيتورينو دافلتر: تنمية الفرد من جميع النواحي: العقلية، والخلقية، والجسمية، لا لمهنة خاصة، ولكن ليكون مواطنًا صالحًا مفيدًا لمجتمعه قادرًا على أداء الواجب العام والخاص.
وللحديث بقية إن شاء الله.
أ.د. شهاب فارس - أستاذ اللغة اليابانية، كلية اللغات والترجمة، جامعة الملك سعود