متجر الثقافة والفنون! ">
تمر بنا مواقف ثقافية صادمة ومضحكة وتبعث الأسى أحياناً، وبعضها يحتار المرء في تصنيفه أو الحكم عليه فلا مكان له سوى باب «الاستعراض» الرائج في الآونة الأخيرة. ومن هذه الفئة دعوة قدمها فرع جمعية الثقافة والفنون بجدة للجمهور من أجل المشاركة في «استقبال سعادة مدير الجمعية بمناسبة عودته لأرض الوطن بعد اختيار الفرع كأفضل جمعية على مستوى الوطن العربي» هكذا تقول الدعوة عبر صفحة الجمعية على الفيس بوك، والتصنيف من «اتحاد الإعلاميين العرب» وهو جهة غير معنية بالمؤسسات الثقافية والحكم عليها، وممثله قال إن الاتحاد اختار جمعية جدة لتكون «من أفضل جمعيات الثقافة»، لكن الفرع أصر إلا أن يكون الأفضل مهما كانت الظروف والجهات وطار فرحاً بـ«الذيب» الذي التقطه من ذيله وطاف به صالات المطارات نشوة وانتصاراً.
لا أعرف عدد الجمهور الغفير الذي استقبل سعادة المدير «الدكتور» سفير «النوايا الحسنة» ولا حجم باقات الورد التي طوّقت عنقه، ولا الفِرق الموسيقية والمدافع التي انطلقت احتفاء بوصوله الميمون، لكنني أعرف جيداً أن فرع جدة متواضع الأداء، ولديه عناية بالتصنيفات الوهمية المخادعة التي أُعيد تدويرها لتتصدر صفحات الثقافة والفن كأنها البوصلة المفقودة التي ستنقذ الجمعية من رداءة أعمالها وسجلها المشوب بالملاحظات في ظل ولع مسؤوليها بالبهرجة الإعلامية على حساب الأداء الحقيقي الذي يستجيب لأهداف ورسالة الجهات الثقافية في المملكة.
فرع الجمعية في جدة لم يستفد من وجوده في مدينة فنية عريقة، ولم يدع الفنانين الكبار فيها بكل تخصصاتهم ليشكل مجموعات استشارية وأخرى تنفيذية تتعلق بالفن الموسيقي والتشكيلي وفنون الأداء، على سبيل المثال، ولم يعلن للجمهور شيئاً من برامجه التكاملية، وظل مشغولاً بـ«تسليع» بعض الفعاليات حيث يقدمها برسوم مبالغ فيها إذ لم تعد الجمعية مؤسسة رسمية هدفها دعم المواهب مجاناً، وتأهيلها، وصقلها، والأخذ بيدها بوعي ومسؤولية بدلاً من تركها لجهات تتخطفها وتغريها وتستولي على عقولها فتغدو كارهة للحياة والفن والجمال.
على سبيل المثال نظّم الفرع «ملتقى فانتوم» برسم مئة ريال للشخص، ومسرحية «الكتاب العجيب» يدفع من يشاهدها أربعين ريالاً، ومثلها مسرحية «شمشون وغابة الأصدقاء» بخمسة وثلاثين ريالاً، ثم دورة في «فن إلقاء القصة» رسمها ثلاثمئة ريال، تلتها دورة «بناء الفريق المثالي» بمئة وخمسين ريالاً، ودورة «في ملامس السطوح» بأربعمئة ريال، أما ورشة «فن الخزف» فكانت قيمتها مئة وعشرين ريالاً والشهادة بمئة ريال، ودورة «الخط العربي» قيمتها أربعمئة ريال وشهادتها بمئة ريال.
مؤسف جداً أن تتحول الجمعية إلى قطاع تدريب تجاري يستنزف جيوب الشباب ويجلب مدربين خبرتهم ضعيفة، ولا أدري من سمح لها بقبض الأموال، وكيف تتم الرقابة المالية، وما أوجه الصرف فهي جهة حكومية تتلقى دعماً سنوياً، وسمح لها، كما قيل من قبل، بتلقي دعم القطاع الخاص؛ وهو باب يحتاج إلى رقابة صارمة وتحديد مراجعين ماليين، وقبل ذلك إصدار قانون صريح ينظم الجانب المالي حتى لا تتحول الجمعيات إلى دهاليز للفساد والصراع من أجل المصالح الصغيرة على حساب رسالة فنية وثقافية لم تفلح الجمعية في تبنيها كما تشير أهدافها، أو كما يحلم الهواة والموهوبون والفنانون الكبار أيضاً.
ويبدو أن الوزارة تناست هذه القطاعات، إلى جوار الأندية الأدبية، وجمهور الأولى أوسع وأكثر تنوعاً وحضوراً وصراعاته أقل.. أرجو أن تتدارك الإدارة العامة لجمعية الثقافة والفنون ووكالة وزارة الثقافة والإعلام هذه الملفات فتعيد الجمعية إلى أهلها الذين باتت تراهم مستهلكين وتفكر في العبث بجيوبهم عبر مسالك تجارية سنكتشف، متأخرين، إنها جناية كبرى.
- محمد المنقري