حظيت القصيدة العربية باهتمام النقاد البالغ بكل تفاصيلها: ألفاظاً، وتراكيبَ، وصوَرًا، ومعانيَ، وبناءً ابتداء من مطلعها، وانتهاء بخاتمتها.
وقد أفاض جلّ النقاد القدامى في الحديث عن ضرورة أن تكون القصيدة متماسكة مترابطة، لا تجد بين أجزائها تنافرا، ولا فجوات، فابن طباطبا على سبيل المثال يقول: «وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قُدِّم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخُطَب إذا نُقض تأليفها، فإن الشعر إذا أُسس تأسيس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلها كلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها،...، حتى تخرج القصيدة كأنها مُفْرَغة إفراغاً».
ويقول أيضاً عن الشاعر مؤكداً فكرته هذه: «فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه، فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفّق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها...، وينبغي للشاعر أن يتأمّل تأليف شعره وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتّصل كلامه فيها».
ويقول الحاتمي في هذه الفكرة كذلك: «مثلُ القصيدةِ مثلُ الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض؛ فمتى انفصل واحد عن الآخر وبَايَنَهُ في صحة التركيب، غادر الجسمَ ذا عاهة تتخوَّن محاسنَه، وتُعَفّي معالـمَه».
أما في العصر الحديث فمن النقاد من يرى أن البناء الفني هو أحد ثلاثة منجزات للقصيدة الحديثة، مثل الدكتور أنس داود؛ إذ يرى أنه لا بد أن تعتمد القصيدة على خطة فكرية تُحكم بناءها الفني، لكي يسهم كل جزء فيها في تنمية هذا البناء نمواً متصاعداً يحقق للقصيدة قدراً من وحدتها العضوية. وقائمة أسماء النقاد الذين يحضّون على الاهتمام بالوحدة العضوية في القصيدة ويحرضون على العناية بتماسكها وبنائها الفني قائمة طويلة يضيق عنها مقال.
وحين نجول في ذاكرة الشعر العربي نجد كثيراً من النماذج الشعرية قد خلّدها التاريخ بتأثير بنائها، ولعل جودة بناء بائية أبي تمام قد هيّأتها للبقاء في الذاكرة، إضافة إلى أهمية موضوعها، كما أن القصيدة المتنازَع على نسبتها إلى غير واحد من الشعراء ومطلعها:
نالت على يدها ما لم تنله يدي
نقشاً على معصم أوهَت به جلَدي
محكمة البناء، والقارئ يرى كيف صار كل بيت فيها يُسْلِمه إلى البيت الذي بعده، ولو أن الشاعرين هنا اكتفيا بجودة التصوير، وحسن المعاني دون الالتفات إلى تجويد البناء لما بقيت القصيدتان متداولتين على كل لسان، يكاد يحفظهما كل من قرأهما.
وإذا قرأنا ديوان عمر أبو ريشة جذبَنا شعرُه بتقنيات كثيرة، أحدها بناؤه الفني، وقد وصف مارون عبود شعر أبو ريشة بأنه صفّ من العسكر، فالجنود يقف كل منهم في مكانه المناسب، فيبدو النظام جميلا دقيقاً كما ينقل الدكتور حيدر الغدير، وهذا البناء لا يأتي إلا بإعمال القريحة، فقد قال عمر أبو ريشة عن نفسه: إنه شاعر قصيدة لا شاعر بيت. وهذا كلام يدل على أن يصوغ قصيدته على خطة بناء محكمة.
ومن تأمل الشعر السعودي برزت له نماذج تشدّ القارئ بكثافة الشعرية، وتماسك النص، وإحكام البناء الفني مهما طالت قصائدهم، ومن هؤلاء المجوّدين جاسم الصحيّح، فقصيدته «عنترة في الأسر» تصل إلى نحو مئة وخمسين سطراً لا تجد بين سطورها فجوة، بل إن كل سطر ينقلك بسلاسة إلى السطر الذي يليه، ثم تجد أن القصيدة من مطلعها إلى خاتمتها قد بُنيَت بناءً يروع القارئ بإحكامه، وأظن أن كل قصائده على هذا الأسلوب.
ولعبدالله الرشيد عناية فائقة ببناء القصيدة الفني، وخاصة في قصائده العمودية، وحين نقرأ قصيدته «حديث ليلة عاصفة» -وهي قصيدة تفعيلية- نلحظ فيها بوضوح كيف أتقن معمارها، وجعل القارئ ينتقل معه سطراً سطراً ليكتشف نهاية حديث هذه الليلة العاصفة، ويستبين له لغزها الغامض، فقد كانت القصيدة أشبه بقصة.
ولمحمد إبراهيم يعقوب تنسيق مشوّق بين الشعرية الحديثة والتسلسل الفني لبناء النص، يشدك مثلاً في قصيدته «مدونة أخيرة على هامش الماء».
ولتشويق القارئ أدعوه إلى قراءة قصيدة الصحيّح والرشيد ويعقوب ليتذوق الشعر كما يجب أن يكون، ولكي يتأمل المعمار أو البناء الفني لتلك القصائد.
- د. سعود بن سليمان اليوسف