بوتين يأمر الجانب الأكبر من قواته بالانسحاب من سوريا ">
موسكو - سعيد طانيوس:
فجّر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مفاجأة مدويّة بوجه حلفائه قبل خصومه بإعلانه المفاجئ سحب الجزء الأكبر من قواته في سوريا. وأوعز، إلى وزير دفاعه سيرغي شويغو بالبدء بسحب الوحدات الروسية من سوريا اعتباراً من يوم الثلاثاء، وقال، خلال لقاء مع وزيري الخارجية سيرغي لافروف والدفاع «إن المهمة التي كلفت بها وزارة الدفاع والقوات المسلحة قد نفذت بشكل عام، لذلك آمر بالبدء بسحب الجزء الرئيسي من وحداتنا العسكرية في الجمهورية العربية السورية اعتباراً من يوم الثلاثاء». وأعلنت وزارة الدفاع الروسية، يوم الثلاثاء، أن أول مجموعة من الطائرات الروسية أقلعت من سوريا نحو قواعد تواجدها الدائم في روسيا. وأشارت في بيان إلى أن مجموعات الرحلات الطويلة تضم كل منها «قائدا» وهو طائرة من طائرات النقل العسكري «توبوليف «154 أو «إيل-76»، إضافة إلى أنواع مختلفة من الطائرات المقاتلة.
ونفى الكرملين أن يكون قرار سحب القوات الروسية الأساسية من سوريا يستهدف ممارسة الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد، مؤكدا أن الرئيس الروسي لم يناقش هذا القرار مع نظرائه الدوليين. واكتفى دميتري بيسكوف الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي الثلاثاء 15 مارس/آذار بالقول ردا على سؤال ل»الجزيرة» حول ما إذا كان قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشير إلى عدم ارتياح موسكو لموقف الرئيس السوري: «لا ليس الأمر هكذا».
وأردف قائلا: «إنه قرار اتخذه الرئيس الروسي بصفته القائد العام للقوات المسلحة الروسية، اعتمادا على نتائج عمل القوات الروسية في سوريا». وأوضح أن بوتين أخذ تلك النتائج بعين الاعتبار وتوصل إلى استنتاج مفاده أنه تم تحقيق المهمات الأساسية المطروحة بسوريا.
وشدد بيسكوف قائلا: «لم يكن هذا الموضوع مطروحا خلال المحادثات مع الزعماء الأجانب، بل هو قرار اتخذه الرئيس الروسي لوحده». وأكد أن قسما من العسكريين الروس سيبقون في قاعدتي حميميم وطرطوس، لكنه نصح الصحفيين بالتوجه إلى وزارة الدفاع الروسية بأسئلتهم المتعلقة بمستقبل برنامج المستشارين العسكريين الروس في سوريا ومنظومة «إس-400» المنشورة في قاعدة حميميم الجوية.
وقد أشاح الرئيس الروسي الأنظار عن جنيف حيث انطلقت المفاوضات, بإعلان سحب جزء كبير من القوات الروسية من سوريا , وجاء هذا الاعلان غير المنتظر صادما بتوقيته لجميع اللاعبين الدوليين والإقليميين. وبانتظار ما ستحمله الساعات القادمة من ردود افعال على خطوة موسكو وانعكاساتها على عملية السلام، أبقت العاصمة الروسية على تعهدها بدعم دمشق في مكافحة الإرهاب.
هل هي إعادة تموضع روسي؟ أم انسحاب تدريجي من سوريا قبل الغرق في وحول حروبها الكثيرة، في لحظة إطلاق عملية سياسية، متعثرة كما يبدو بوضوح من عودة الشروط المسبقة في جنيف؟. وسواء كان قرار بوتين اعادة تموضع أم انسحاب يشبه الى حد كبير الفرار من افغانستان, فان الواضح ان الروس يراهنون على مفاوضات جنيف لاستكمال الإمساك بقرار السلم، بعد الحرب في ميادين الضفة الشرقية للمتوسط حيث دخلت الحرب السورية عامها السادس.
الرئيس الروسي فاجأ من دون شك دمشق، بالإعلان عن «سحب القوة الرئيسية» من الحشد الروسي الجوي، بعد أن أسهم إلى حد كبير، بالعودة إلى جنيف، وخصوصاً، وهذا الأهم بقلب المعادلة الميدانية في سوريا، ودفع الجيش السوري، للخروج من الحصون التي بدأت تضيق حوله في الصيف الماضي، داخل خطوط سوريا المفيدة، وبعد غزو المعارضة المسلحة لإدلب وجسر الشغور.
وعلى الرغم من أن الروس أعلموا السوريين مسبقاً، وقبل 24 ساعة، من نشرهم نبأ سحب القوة الرئيسية على الملأ، إلا أن التدبير الروسي، في توقيته وحجمه يظل مفاجئاً، خصوصاً أنهم كانوا قد نقلوا قبل ثلاثة أيام من الإعلان عن سحب جزء من قواتهم، سرباً من 10 طوافات مقاتلة، فيما تحتشد أعداد كبيرة منها في مطار الـ «تي فور» شرق حمص، لرفع وتيرة العملية ضد تنظيم «داعش» في تدمر، وطرده من المدينة. وفيما اشاع الكرملين ان قرار الانسحاب متفق عليه مع الاميركيين , قال مسؤولون أميركيون إنهم لم يتلقوا أي إشعار مسبق حول قرار بوتين البدء في سحب جزء من القوات العسكرية من سوريا، وعبّروا عن دهشتهم من الإعلان المفاجئ الصادر عن موسكو. وأعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي باراك أوباما تناقش هاتفياً مع بوتين مسألة «الانسحاب الجزئي» للقوات الروسية.
ويبدو القرار مفاجئا حتى لاقرب المقربين من بوتين , لانه جاء متناقضاً تماماً مع إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن «امتلاك موسكو دلائل عن وجود عسكري تركي داخل الأراضي السورية»، أو تقرير وزارة الدفاع الروسية الذي تحدث عن عشرات قوافل الأسلحة والذخائر التي تتدفق إلى الشمال السوري، من تركيا، بعد أن أعلنت الوزارة أ نها قامت بتدمير مستودعات أسلحة وذخائر أمضت المجموعات المسلحة خمسة أعوام في تخزينها، وهي عناصر كلها تحمل على الاستنتاج أن القرار الإنسحابي اتخذه بوتين شخصيا وهو وليد الساعات الأخيرة وتطوراتها، وهو ما يؤشر الى وصول التباين بين موسكو ودمشق الى مرحلة متقدمة، خصوصاً أن التواجد في سوريا لا سقف زمنياً له، كما كشف عن ذلك الاتفاق الموقع مع دمشق يوم 26 آب\اغسطس الماضي، وهذا ما يزيد من حدة التساؤلات.
والأرجح أن التعايش الروسي - السوري حول أهداف هذه العملية وأثمانها السياسية قد وصل مرحلة حرجة، خصوصاً أن القرار جاء أحادياً، وصدر من موسكو، وليس بشكل متزامن أو متفق عليه بين دمشق وموسكو.
ويقول مصدر روسي إن السوريين لم يُظهروا مرونة كافية في الأسابيع الماضية في مقاربة المطالب الروسية بالانخراط في العملية السياسية. إذ يربط الروس، كما قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا، مطلع آذار\مارس الحالي، بين إجراء الانتخابات التشريعية في 13 نيسان ابريل المقبل وبين إشراك المعارضة فيها، برغم أن الكرملين عاد في ما بعد ليرى ، ورداً على مواقف أميركية ، أن إجراء انتخابات تشريعية سورية، في قلب مفاوضات جنيف، لن يعرقل هذه المفاوضات.
ويشير مصدر روسي الى إن بوتين اعتبر الإعلان عن إجراء تلك الانتخابات، في يوم الإعلان عن الهدنة في 28 شباط\فبراير الماضي، تجاهلاً لخريطة الطريق التي تبنتها موسكو وواشنطن في فيينا. وكان جلياً أن توقيت الهدنة، في ذروة تقدم الجيش السوري في ريف اللاذقية، وشمال وشرق حلب، وبدء إحكام الطوق على المدينة، وإغلاق الحدود والمعابر مع تركيا، شكّل تنازلاً غير مفهوم من السوريين، فضلاً عن أنهم كانوا يرفضون الهدنة بأكملها.
فالجيش السوري، الذي كان يعيش قبل «عاصفة السوخوي» مرحلة تراجع نحو حصونه التقليدية، كان سيجد الهدنة خطأ استراتيجياً، وكبحاً لديناميكية بدأت تحقق إنجازات كبيرة، وتحوّل مناطق المجموعات المسلحة إلى مجرد جيوب معزولة يمكن إسقاطها، واستراحة للمقاتلين الذين بدأوا يعيدون تنظيم صفوفهم، وبناء قوتهم العسكرية. وجاء كلام فيتالي تشوركين في الأمم المتحدة، على مداخلة الرئيس السوري بشار الأسد أمام نقابة المحامين وإشارته إلى أنه لم يلتزم بالسياق الروسي، نقداً علنياً للخيارات السورية، بعدم التوقف في منتصف الطريق، في حين تلوح بشائر النصر.
وإذا كان الموقف الروسي يعبّر عن حاجة الكرملين إلى أفق سياسي لعملية قواته, لذلك بدا أكثر استعجالاً من السوريين، للانخراط في العملية السياسية، دون ان يتمسك بالخطوط الحمراء التي تحدث عنها الوزير وليد المعلم.لذلك فإن موقف الأسد في التمسك بالانتخابات التشريعية، وبرؤيته الخاصة للحل السياسي الذي لا تخضع لجنيف واحد اشعرت بوتين بان الاسد يسعى لتوريطه في حروب طويلة ودون افق.
كما أن القرار يتجاوز بكثير ما قيل عن دوافعه، سواء تلك التي اوردها بوتين عن «تنفيذ القوات غالبية مهمات وزارة الدفاع والقوات المسلحة» أو في ديباجة وزارة الدفاع من أن القوات الروسية في سوريا قتلت ألفي إرهابي روسي. وهي ديباجة توجه رسالة مزدوجة إلى الداخل الروسي، الذي تعصره العقوبات الاقتصادية تدريجياً، وتهديدات الإرهاب، معيداً الحرب على الإرهاب إلى مقاييس لا تسمو إلى ما كان الروس يتحدثون عنه في بداية «عاصفة السوخوي» عن حرب على كل الفصائل التي ترفع السلاح في وجه الجيش السوري. كما أن في طيات القرار طمأنة للخائفين من انزلاق روسي في الحرب السورية.
وتقول مصادر سورية إن الروس باشروا فعلا بسحب جزء من طوافاتهم وقاذفاتهم الـ120 في قاعدة حميميم الجوية، فيما تقول واشنطن إنها لم تلحظ أي تغيير في قاعدة حميميم حتى الأمس.
ولكن إخلاء الجزء الأكبر من القوة الرئيسة يعني بشكل خاص، الاستغناء عن عدد غير محدد حتى الآن من القاذفات من بين 12 «سوخوي 23»، وعدد مماثل من الـ «سوخوي 24» و6 قاذفات «سوخوي 30»، التي تتمركز 30 منها في حميميم، بالإضافة إلى الطوافات المقاتلة التي تشكل الأسراب الأساسية في توفير الإسناد الجوي لعمليات الجيش السوري، والتي أسهمت منذ تاريخ إطلاق الحملة الجوية الروسية، وحتى هدنة 28 شباط\فبراير في تغيير مسار الحرب في سوريا لمصلحة الجيش السوري.
ولا يشكل بقاء سربين من الـ «سوخوي 30 و35»، إضافة إستراتيجية لعمليات الجيش السوري، وهي الأسراب التي قال الروس إنها كُلفت بالبقاء في سوريا، لأن مهامها تقتصر على اعتراض أو تدمير أي هدف «اجنبي»، وتأمين حماية قاعدة حميميم، مع صواريخ الـ «اس 400» وقاعدة طرطوس البحرية، وهي أهداف روسية، لن تؤمن إذا ما تم الانسحاب أي ميزة إستراتيجية تقارَن بعمل القاذفات، ولأنها تنقل العملية الروسية من حالة الهجوم الإيجابي إلى حالة الدفاع.
كما أن الانسحاب الروسي، إذا نُفذ على نطاق واسع، يتحول إلى عنصر ضاغط لإجبار دمشق على تقديم تنازلات سياسية، للاستجابة للصفقة التي يبدو واضحاً أن التفاهم الروسي - الأميركي يقوم عليها، والتي ترفد حتى الآن قاعدة متينة لوقف إطلاق النار. ويجابه الجيش السوري مخاطر أكبر أمام انسحاب القاذفات الروسية الذي لا يزال حتى اللحظة غير مؤكد، إذ إن عشرات الآلاف من الجنود السوريين تدفقوا على عشرات الجبهات للقتال، وخرجوا من حصون المناطق التي خبروا الدفاع عنها خلف بيئة حاضنة، وانتشروا في أرياف حلب وحمص وحماه واللاذقية، وجزئياً في الجنوب، بفضل الإسناد الجوي الروسي.
ولكن السوريين يؤكدون أنهم لا يخشون الانسحاب الروسي، ويقللون من حجمه وأهميته، إذ تقول مصادر سورية رفيعة إن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، تحدث قبل الإعلان عن القرار مع المسؤولين العسكريين، وطمأنهم إلى أن تقليص الوجود الجوي الروسي لن يكون كبيراً، وأن العمليات الجارية، لا سيما في تدمر، لن تتأثر بالإجراءات التي ستكون محدودة جداً. وقال لمسؤولين في دمشق إن «الإعلان كان ضرورياً إعلامياً، لتبرير عودة بعض القطع الجوية والبحرية»، فيما قال مصدر سوري إن اكثر من 70 في المئة من القوة الروسية الجوية ستبقى في حميميم لمواصلة مهامها.
وكان لافتاً الربط بين إعلان الانسحاب وبين جواب الأسد لبوتين «عن استعداد دمشق لبدء العملية السياسية في البلاد بأسرع ما يمكن، معرباً عن أمله أن تثمر المفاوضات التي بدأت في جنيف بين الحكومة السورية وممثلي المعارضة نتائج ملموسة». إذ لا تزال المفاوضات السورية في مرحلة الاختبار الأولي، من دون أن تتغير المواقف، أو تتبدل المقاربات والمطالب التي أدت إلى إسقاط الجولات الماضية.
ويتكتم الوفد الرسمي السوري على ورقة عمل، عنونها رئيس الوفد الحكومي السوري بشار الجعفري، «بعناصر أساسية لحل سياسي» في سوريا، وقُدمت إلى الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا، في أول لقاء للجولة الحالية للمفاوضات.
وبدأ يتبلور للمرة الأولى تقارب روسي ـ أميركي - أممي وسوري حكومي، حول خريطة فيينا المثلثة: حكومة موسعة، تعديلات دستورية، وانتخابات تشريعية ورئاسية، واعتبارها صالحة للبحث والتسوية، مع ضرورة البحث في آلياتها ورزنامتها. وكان وفد الرياض قد عقد خلوة مطولة في فندقه للتوصل إلى ورقة مضادة، لكنه لم يخرج سوى بعناوين معروفة تتمسك ببيان جنيف واحد، وضرورة البحث في حكومة انتقالية، ترفعه إلى السلطة في دمشق، من دون الانخراط في العملية السياسية، التي يكاد يتفق عليها الروس والأميركيون، ويفرضون على الحكومة السورية التعاطي معها بإيجابية.
وكان لافتا ان قرار الكرملين الانسحاب من سورية انعكش فورا على بيانات بورصة موسكو يوم الثلاثاء 15 مارس/آذار، اذ عزز الروبل موقعه أمام العملات الأجنبية، بعد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب قواته العسكرية الرئيسية من سوريا. وعوض الروبل بعض خسائره السابقة أمام الدولار بارتفاعه بنحو 70 كوبيكا (الروبل = 100 كوبيك) مباشرة بعد إعلان القرار، فضلا عن صعوده أيضا أمام اليور وبنحو 80 كوبيكا.
ومباشرة بعد صدور قرار سحب القوات، وبحلول الساعة 21:30 بتوقيت موسكو من يوم 14 مارس/آذار، انخفض الدولار بمقدار 15 كوبيكا ليصل إلى 69.99 روبل، كما تراجع اليورو بمقدار 37 كوبيكا ليصل إلى 77.61 روبل، وفقا لبيانات بورصة موسكو.
وحذت مؤشرات بورصة موسكو حذو العملة وافتتحت مرتفعة، فسجل مؤشر»مايسكس» للأسهم المقومة بالروبل في تمام الساعة 10:08 بتوقيت موسكو يوم 15 مارس/آذار قراءة عند 1874.92 نقطة، مرتفعا بنسبة 0.52% عن سعر التسوية السابق. كما صعد مؤشر»ار تي اس» للأسهم المقومة بالدولار بنسبة 1.13% ليصل إلى 839.89 نقطة.