عبدالرحمن بن عبدالكريم المعجل -رحمه الله- ">
كان هاتف آخر الليل مزلزلاً مدوياً وموجعاً مفزعاً ذلك الهاتف الذي اختصر المصيبة بكلمة رحل! فنفرت الدمعة وهاجت اللوعة وهي تستحضر قصة ومكانة وسيرة صاحب السمعة!! الوالد الغالي عبدالرحمن بن عبدالكريم بن إبراهيم المعجل -قدس الله روحه- في جنات النعيم الذي أضاف للمعاني الجليلة جلالها وأعطى للحياة النبيلة جمالها وفيه ومنه وله تدور الحكمة والحنكة رحل الكبير وهو يساند ويقف مع نموذج مشرف لبنات الوطن التي يفخر بها أهلها وحكومتها ووطنها، حيث كان يرعى ابنته الطبيبة الدكتورة نداء المعجل في رحلة البحث العلمي لإنجاز أدق مفاصل الدراسات العليا في أندر التخصصات في أعرق الجامعات الأمريكية مضحياً بصحته وراحته تاركاً وراءه من اعتاد على مجالستهم يومياً وتاركاً وراءه قلوباً تتلهف له وتفتقد غيابه رحل الكبير عبدالرحمن المعجل الذي عاش حياته كريماً عزيزاً عفيفاً نظيفاً لا يلتفت لصغائر الأمور يعضد من هزمته نفسه ويكبر بنفسه ويعظم بطيبه ويشيح بوجهه عن منحنيات صغائر الأمور تحمل مكدرات الزمن وكان له حلم تحقق بل أحلام تحققت وكلها تدور في فلك العلم فرحل؛ وقد أبقى لنا شابين متعلمين متفوقين تشربا قيمه الفاضلة وبنيات تسابقن صعود درجات العلم فحققن أعلى الدرجات العلمية.. رحل الكبير الذي خدم في أهم مؤسسات الدولة وأخلص في عمله وتفاني في واجبه وخرج متقاعداً سليم القلب نقي الذمة لم تلوثه مغريات الحياة ولم يخدش جلال الوظيفة العامة هكذا هم الرجال الذين يعيشون بهدف ويسعون لهدف ويرحلون وقد حققوا أهدافاً أعظمها تأثيرهم الإنساني والأخلاقي والأبوي في قلوب وعقول وخواطر كل من عرفوهم.. لم يعش أبو عبدالكريم لنفسه ولا لأهل بيته ولا لجيرانه فحسب، بل كان مشروعاً إنسانياً عاماً يشيع الضياء، حيث حل يبتهج به إذا حضر ويسأل عنه إذا غاب وللرجل في ذمتي ألف ألف أمانة أولها أنني مدين له بالفضل والبر فهو سليل أسرة كريمة الجانب طيبة الأرومة ارتبطت مع أسرتي بتاريخ مشرف.. وضربت الأسرتان مثلاً أعلى وأبقى وأنقى في صدق العشرة وديمومة الوفاء. فلجده إبراهيم بن محمد المعجل موقف رجولي وبطولي مع جدي غازي بن عضيب الدعجاني -رحمهما الله- ذلك الموقف الذي ما غابت عنه شمس يوم الحدث حتى اكتملت بين الرجلين وشائج الرأي ليكمل والدنا الغالي الأمير عبدالعزيز بن عبدالعزيز بن ماضي بقية فصول قصة الوفاء التي يسمع بها الكثير ويعرف حقيقتها القليل -رحمهم الله جميعً-. ثانياً لي مع الراحل الكبير عبدالرحمن بن عبدالكريم المعجل قصة أخرى بدأ أول سطر فيها أني لم أره إلا هاشاً باشاً كريماً مضيافاً يتحمل الألم ليبقى في نفوس محبيه الأمل يرحب بالصغير كأنه كبير لا أتذكر أنني زرته وودعته إلا وهو يحاول أن يثنيني عن المغادرة لم يكن أنانياً إلا في محبته، لا يريد أن يحبك إلا هو، ولا أن يخدمك إلا هو ولا يحمل همك إلا هو، مبادراً لتلبية دعوات جماعته لا يثنيه الألم والظرف الصحي عن تحمل عناء ومشقة الذهاب للمناسبات العامة والخاصة لم يدرس في مقاعد الجامعة ولم يعرف نظريات الإدارة.. لكن كان له أسلوب في التحفيز والتشجيع بضرب أمثلة النجاح بإلماحة ذكية له رأي حصيف لا يتجاوز عين الصواب يلقبونه بأبي عبدالكريم، وللقبه نصيب من سلوكه وسجاياه ومزاياه فهو كريم بوقته سخي بحياته ومعطاء بخلقه، لا يراه أحد إلا وكان للسرور في نفسه نصيب متواضع مع الجميع لا يتكبر وليس فظاً غليظ القلب؛ وهذه صفات المؤمن الحق الذي يرجى له الخير في الدنيا والآخرة. كان مؤنساً لا يزاحم في المجلس ولا يدعي ما ليس له، يأخذ مكانة حيث انتهى به المجلس، يخلط دعابته بمؤثرات تبقى راسخة، يلاطف الأطفال ويجمعهم حوله، لا يتذمر من شقاوتهم وإزعاجهم حتى لا يكدر خواطر والديهم.
رحمك الله أيها الكبير؛ رحمك الله يا من تستحق الدعاء والوفاء، يشعر كل واحد من أقربائه وأصهاره بأنه الأغلى والأقرب تشرفت بمرافقته في رحلته العلاجية لأمريكا حوالي عام 1992م وتزامنت عملية زراعته للكبد مع عملية مماثلة أجريت لسماحة الوالد الشيخ صالح بن غصون -غفر الله لهما- في ذات المستشفى في مدينة بتسبيرج، وكنت أحرص على حضور مجلس الشيخ اليومي برفقة أبي عبدالكريم أحياناً ووقفت على كثير من اللطائف التي كانت بينهما ومحبتهما لبعض؛ إذ كان أبو عبدالكريم يشيع الأثر النفسي المبهج حيثما حل، وسماحة الشيخ يفتقده إذا غاب ويوصي به خيراً وتسره دعاباته.
كان -رحمه الله- مضرب المثل في بره بوالديه وعنايته الفائقة بوالدته حتى توفيت إلى رحمة الله؛ وهو في خدمتها يقوم على رعايتها.. ويسخر لها وقته وجهده وماله، ويمتد بره إلى شقيقاته وعمه الفاضل وأسرته الكريمة؛ كابد ضيق العيش منذ صغره ولم تلن عصاته ولم ييأس ولم يأنف من أبسط المهن التي عمل بها حتى أصبح مسؤولاً مالياً في جهاز حكومي حساس وبعد تقاعده التفت بتركيز دقيق لأهل بيته.. لم يرحل الكبير حتى قرت عينه برؤية أحفاده وهم يتحلقون حوله يمطرهم بلطفه ويبادلونه السرور حبوراً وابتهاجاً، يأنسون به ويأنس بهم يفرحون بمقدمهم له ويغضبون إذا انتهى وقت الزيارة.. كان الكبير الغالي يخجلني ثناؤه فأخشى إن ابتلى بتصديق ما تراه عين الرضى.
كان أبو عبدالكريم في ليلنا قمراً نحيا على ضوئه ونقائه وفي نهارنا شمساً ساطعة تحثنا على المثابرة لتحقيق أهدافنا التي أضحت جزءاً من أهدافه يتفقد مافي رؤوسنا من أحلام ويساعد في ترتيبها ويدعم نجاحها ويهون من صعوبتها ويشارك في اكتمال صور الأحلام الجميلة، لأن الله قد منحه جمال الحلم الذي كالغيمة المحملة بالغيث النافع.
رحل الوالد الكبير عبدالرحمن المعجل وفي قلب كل من عرفه وعاشره وخالطه وتعامل معه غصة وألم.. أما الأقربون الذين هم أولى بالحزن من الآخرين فقد أصابهم من الخطب الجلل ذهول جعلهم يتمسكون بالعروة الوثقى فيسترجعون ويترحمون ويدعون ويكابدون ويتفقون في أن للغياب عذاباً سيرافقهم بقية حياتهم ولن يخففه إلا رؤية أولاده وهم يكملون مسيرته وسيرته.. وحري بالنبلاء عبدالكريم وعبدالله التقاط ما في خواطر محبي والدهم والسعي لأن يكونوا كباراً كما هو والدهم الكبير.
أرفع القلم مكتفياً باليسير في حق الكبير الذي رفع رؤوسنا.. رحمك الله والداً حانياً عزيزاً وأسأل الله أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة وأن يسكنك دار نعيمه وكرامته، وأن يجعلك ووالدي وأموات المسلمين من الذين تدخل عليهم الملائكة في الجنة من كل باب قائلين لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
أحمد بن زيد الدعجاني - مساعد الملحق الثقافي في مملكة هولندا