من مرابع امرئ القيس إلى منازل حاتم الطائي ">
لبيد بن ربيعة
غولُها.. فرجامُها
الجمعة - 19 أبريل 2013 الساعة 5.56
أكتب هذه الكلمات بالقرب من جبال: «المنية» وتقع بالقرب من جبال «الغال»: «الغول» و»الرجام» التي ذكرها لبيد في معلقته.
أكتبُ هذه الكلمات بعد أن قطعنا شوطًا مهمًّا في هذه الرحلة التاريخية التي وقفنا فيها على عدة أماكن وجبال وأطلال وهضاب وأودية ذكرها شعراء ما قبل الإسلام في معلقاتهم.
لقد وقفنا عند جبال مظنة «سنافة» و»القهر» و»أجذاع بيشة» و»طلحام» وكلها ذكرها لبيد بن ربيعة في معلقته، كما شاهدنا «مأسل» و»دارة جلجل» و»سقط اللوى» و»الدخول» و»حومل» و»المقراة» عند جبل «الصاقب» وهي أماكن ومرتفعات ذكرها امرؤ القيس في معلقته.
قطعنا نصف الطريق تقريباً. زرنا أماكن لأول مرة، أماكن وعرة وخطرة جداً في صحراء الجزيرة العربية. بالنسبة لي شخصياً كنت أحلم بزيارتها، ولكن لم أعول كثيراً على تحقيق الحلم.
لكن حين طلب د. عيد اليحيى في شهر مارس 2013م الاستعداد للرحلة لم أتردد أبداً، فقد كنتُ أحلم بالوقوف على الأماكن التي وقف بها شعراؤنا العرب القدامى، وأن أعيش في الأجواء القاسية نفسها التي عاشوها، وهي أجواء يرتّلها السفر، وينشدها الاغترابُ ويُبكيها الترحال.
وها أنذا أعيش هذه الأجواء فأشعر بلذة وغبطة كبرى، فها أنذا أتمثّل سير الشعراء القدامى وتجاربهم، وأتكيّف مع الصحراء القاسية. لكنها مع ذلك صحراء واضحة صادقة لا أقنعة فيها ولا كذب لأنك تمارس فيها الحياة بكل شفافيتها ما بين الأرض والسماء. وحده قانون الجمال هو الذي يفرض سطوته في هذه الصحراء المترامية.
في هذه الصحراء تشعر أنك إنسان حقيقي. إنسان بلا اقنعة يحيا حياته دون تبرير وتزييف، دون رياء أو مداهنة، لا حضور أو انصراف، أو ذهاب وإياب وضجيج وصخب وتزلف وحاجة ومجاملة.
إن صنيع المدينة ومأساتها لا توجد هنا. هنا وحدك تتأمل في سماوات الله المتجددة في هذه الهضاب الشاسعة والجبال التي تحدث الغيوم، والنجوم التي توشوشُ وتباري نفسها كأنها تحلم أن تنزل إلى الأرض، والسحب التي ترتحل، تمطر أو تظلل أو تجوس، والنباتات التي تحلم بسموقها في شجر تحاوره الرياح، والرمال التي تلاعبُ الحصى.
في الصحراء تستطيع أن تلمس الأشياء بطزاجتها الكونية، وتستطيع أن ترى نفسك من جديد.
أكتب هذه الكلمات بعد أن مررنا يوم الخميس 18 أبريل 2013 ببرقة ثهمد بالقرب من جبال وقرية تُسمى: «هرمولة».
انتقلنا بعدها إلى واد رائع أمام جبال «طُفخة» مليء بأشجار الطلح ونبات «الرمث» الذي يملأ الصحراء التي تحتضن جبال «الغول» و»الرجام» وعدداً من المرتفعات الأخرى المتنوعة.
أمام جبال «طُفخة» عسكرنا لمدة ساعتين ونصف الساعة، حيث أعد الزملاء طعام الغداء وكان عبارة عن لحم من «الطلي» الذي ذبحه القصاب السوداني، وسلخه وقطعه إلى أجزاء صغيرة ووضعناه في أكياس بلاستيكية بثلاجة الكرافان.
قام الطباخ الهندي بطبخ اللحم والأرز في الإناء المضغوط وخلال إعداد الطعام قمت بتصوير الجبل ومرتفعاته والوادي الجميل والصحراء الممتدة أمامه. كما قام الزميل المصور طارق المطلق بالتقاط عدد من الصور للجبل. كما قام بالتقاط بعض الصور لي.
تناولنا طعام الغداء ثم الشاي، ودخّن بعض زملاء الرحلة الشيشة التي يدخنونها كل يوم.
بعد أن استروحنا قليلاً قمنا بلملمة الكرافان والاستعداد للانتقال إلى مكان آخر، وكان جبال: «الرجام» على بعد 11 كم من جبال «فُطخة» وعند وصولنا إليها قمنا بتصويرها.
مررنا في الطريق إليها بعدد من القرى في الصحراء التي يسكنها البدو لرعي الإبل، والقرى بها آبار مياه موصلة بمواتير كهربائية يمكن شفط المياه عبرها. وبالقرى محطات للبنزين والسولار والديزل، وبقالات، وبها مدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية، كما في قرية: «كبشان» وقرية «القرارة» التي يوجد بها بالإضافة لما سبق، أسواق، ومستوصف صحي، وقد قمنا بملء خزان الكرافان بماء بئر نقي يقع بالقرب من القرية، وقد حفره وجهزه بمواتير الكهرباء أحد الوجهاء - لوجه الله تعالى - كي يستطيع كل من يعيش في القرية أو العابرين أخذ حاجتهم من الماء.
شاهدت جبل «الرجام» وقمت بتصويره، وهو أحد الجبال التي ذكرها لبيد في معلقته، وهو جبل شاهق صخوره سوداء كالليل، يبلغ ارتفاعه ما بين 400-500م تقريباً.
ثم انتقلنا لتصوير بعض الجبال كنا نحسبها جبال» الغول» لكن اتضح لنا بعد تمحيص أنها جبال أخرى.
وبسؤال بعض ساكني القرى وصلنا إلى جبال الغول وتقع بالقرب من طريق الأسفلت الذي يربط القرى ببعضها، وقمنا بتصوير جزئه الأمامي.
كانت الساعة تقترب من السادسة مساء الخميس 18 أبريل 2013 وبدأ الغروب يلقي معاذيره، ويتسلل تدريجياً إلى المشهد، وهنا قابلنا بعض الأطفال يلعبون في ديرتهم. واقتربت سيارتنا منهم وسألهم د. عيد اليحيى عن جبل « الغول» فتحدث أحد الأطفال بلباقة وبلاغة وأدب أن ما قمنا بتصويره هو أمامية جبال «الغول» وأن جبال الغول لها طريق آخر أخذ يصفه بحماسة ولباقة.
انصرفنا للبحث عن مكان نبيت فيه ونقضي ليلتنا بالقرب من جبال «الغول» و»المنية» وفي الطريق قابلنا شاب في الخامسة والثلاثين من العمر تقريباً بسيارته الداتسون وأشار لنا بالوقوف فتوقفنا، وسألنا: هل أنتم فريق بحثي؟ أجبناه بـ «نعم» قال: أنا أعرف جبال الغول تماماً، وهي تُسمى الآن جبال: «أم سخال» وذكر قصة أسطورية أو حقيقية تروى عن هذا المكان منذ 200 عام وموجزها: أن هناك صقرًا كان لا يصطاد الطيور بل يضرب سخال الماعز الصغيرة ويحملها ويأكلها، ولهذا أُطلق على هذه الجبال مسمى: «أم سخال».
كان د. عيد اليحيى يعاني من سعال جاف أصابه أثناء الرحلة، فقام هذا الشاب الذي قال: إنه يعمل معلماً، بالاتصال بطبيب المستوصف المصري واسمه: «إسلام» الذي أحضر معه دواء للسعال بعد أن كنا قد ذهبنا للمستوصف الذي كان مغلقاً حيث يغلق مساء الخميس من كل أسبوع.
أخذنا نبحث عن مكان قريب وصفه لنا هذا الشاب السعودي، عبارة عن ساحة واسعة ممتدة بالقرب من جبال «الغول» و»المنية» كان الجو قد أظلم وكانت الساعة السابعة، أخذنا ندور بسياراتنا حتى وصلنا لمكان واسع وآمن.
في الطريق توقف د. عيد الذي يقود السيارة الكرافان كي يريني حيوان «الجربوع» الذي كان يركض أمامنا عدد منه يميناً ويساراً، وقد ترجل من السيارة واستطاع أن يمسك بأحدها رغم سرعته الشديدة، حيث قام بتركيز ضوء الكشاف على عينيه فلا يستطيع «الجربوع» أن يتحرك، حيث لا يستطيع الإبصار من شدة الضوء، فيقوم د. عيد بالتحرك نحوه رويداً رويداً ثم يقوم بإمساكه بسرعة.
«الجربوع» حيوان صغير له رأس أرنب صغير، ويدان قصيرتان وساقان كبيرتان يشبه الفأر في سرعته وحركته ولكن له ذيل طويل، وله غرة خلفية وهو يتحرك ويقفز بسرعة كالكنغر الأسترالي.
قال لي د. عيد اليحيى: إن هذا الحيوان «يُؤكل» هل أطبخ لك واحداً؟
قلت له ضاحكاً: لا. لا يادكتور أنا كما قلت لك من قبل لا آكل سوى الأشياء المعروفة لحم البقر، الأسماك، الدجاج مثلاً، حتى إنني في حياتي لم آكل لحم الجمل سوى مرة واحدة وتذوقت لحم الأرنب ولم يعجبني، كما لا آكل أية أجزاء أخرى من اللحوم، أعافها جداً كالمخ والكوارع والأشياء الداخلية في بطون الذبائح.
توقفنا في ساحة ممتدة امتداد الصحراء، ساحة مليئة بالحصى الأسود والبني الصغير تنتشر في أجزاء عريضة منها: نباتات: «الرمث» وهي نباتات قصيرة مستوية الغصون رفيعة جداً. كأنها رموش العين.
وقد ذكرت للدكتور عيد اليحيى أنه ربما تكون كلمة: «رمث» مشتقة من «رمش» أو العكس لتشابه الحروف وتجانسها من جهة، أو للتشابه بين الرموش وبين النبات نفسه، فقال لي باندهاش: فعلاً.. أنت أول من ينطق بذلك، أنا أعيش في هذه المنطقة وقد رأيت «الرمث» عشرات المرات خلال الثلاثين عاماً الماضية، ولم أفكر في الربط بين «الرمث» و»الرمش». قلت له: ربما يكون هناك اشتقاق ما. عند العودة للرياض سأبحث في معاجم اللغة عن هذا التشابه.
الآن. الساعة 6.57 صباحاً ولا يزال الرفاق يستمتعون بالنوم والراحة، الآن. استيقظ العامل الهندي. أنا في انتظار استيقاظ الرفاق لنكمل الرحلة إلى جبل «الغول» ثم إلى جبل في قرية: «المنية» ثم بعد ذلك الذهاب إلى جبل «خزاز» للمبيت عنده وهو قريب من مدينة «الرسّ» بمنطقة القصيم.
- عبدالله السمطي