(اعرف نفسك) قانون سقراط, يُعلّق على أبواب عيادات الطب النفسيّ, عتبةً أولى في مراحل الحل.
والشعراء الحقيقيون لهم طباعهم الخاصة, التي تجعل التعميم على شخصية الشاعر من بيت أو بيتين حكماً غير موضوعي, شخصية الشاعر أشبه بصورة مقطّعة مثل لعبة الألغاز التركيبية, لا تتشابه فيها قطعتان, ولا تغني إحداها عن البقية, ولا تكتمل الصورة -لمن أراد رؤية واضحة لشخصية الشاعر- لا تكتمل إلا بالاطلاع على كل (قِطَع) هذه الشخصية, من نصوصه, لا من آراء النقاد, ولا من رؤى المؤرخين.
لذا فمن أروع ما يستوقفني في موضوعات الشعر: تحليل الشاعر لنفسه وطبعه, ووقوفه أمام مرآته, متفهّماً ملامحه, واصفاً لا مادحاً ولا ذامّاً.
وقراءةُ هذا الوقوف بتناقضاته وقريبه وبعيده غايةٌ في الصعوبة؛ لأنه جزء من متعدد, جزء من مساحات فسيفساء مختلفة التركيب والألوان والكثافة, فلا تجتزأ صفات الشاعر في لقب (مبستر) ولا في صفة مشبهة للدلالة على الثبوت, وتتناقلها الأجيال بالوراثة والتسليم.
من تلك الأحكام الوصف بالحدّية, ولنتأمل عدة نماذج, يصف فيها الشاعر (نمط) طباعه, وأن مدّها (صعب) وجزرها (مخيف), لكنها ليست حدية طبع, بل هي حالة, فقط في مواقف ما, مثل حالة معن بن أوس, وهو يصف نفسه بدقة, ويتكيّف مع طبعه (الصعب) الذي لا يشينه, يعترف أنَّ زاويةً ما في مجاهل روحه لا تستقبل ألوان الطيف, ولا تقبل خط العودة.. لا يدرك كنه التعليل, لكنه يعرف مجاهل هذه الروح فيدعو لالتماس العذر لها:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد
إليه بوجهٍ آخر - الدهرَ -تُقبِلُ
وبين علو المدّ وانحسار الجزر, يتحدث المتنبي عن نفسه, التي لم تكتمل صورتها بعد على كثرة القطع المتناثرة عنها, يحلل المتنبي نفسه الصعبة:
وما وُجد اشتياقٌ كاشتياقي
ولا عُرف انكماشٌ كانكماشي
ومن يتأمل إيقاع العاطفة وهو يَخبُر المتنبي, يشعر أن هذا البيت من أصدق ما يوصف به, لا الغرور ولا الطمع ولا العبقرية ولا التملّق... وكلها عنده, لكن في أغوار النفس يتحدث عن معاناة المد الذي لا يبلغ وصوله مدّ, والجزر الذي إن انحسر فلن يعود.. جزر مخيف فعلاً, خافه كل من عرفه؛ لأنهم يعلمون تبعات هذا الانكماش. وأبوصخر الهذلي يعترف بوقوفه متطرفاً على الجانبين -مع أنّ (كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ)-, يحلل نفسه التي تقف على حافة الطرفين دون مسبب واضح, إلا أنها هكذا : تكوين, وطبع, ونفس:
هجرتُكِ حتى قيل: لا يعرف الهوى
وزرتكِ حتى قيل: ليس له صبرُ
كل ما قيل, ويقال, عن تطرف نفس الشاعر لا يضاهي هذا الاعتراف, الذي هو سيد الأدلة على صعوبة نمط أرواح الشعراء, وتحررهم من ضغط المتلقي, فلا يكترث لتصحيح ولا يسعى لتعليل.
أما أبو فراس الحمداني, فأكثر من تصفه الآراءُ النقديةُ بالحدّية, في حكم جزئي على نص, قاله أسيراً أميراً جريحاً, أيام رومياته الأولى:
ونحن أناسٌ لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبرُ
ولا يُكتفى بإطلاق الصفة على كل مساحات نفس الشاعر من بيت أو بيتين, بل وُصِفَ بأنه النسق العربي, في كثير من مؤلفات النقد الثقافي, ومن يرى أبا فراس (كلَّه) في ظرف النص وبنائه الكامل ودلالاته يجد التناسب الواضح مع الحال, لكنه في عشرات النصوص قبله وبعده, يبدو آلِفاً لمنطقة الوسط, شاعرٌ جَلِد, غير مندفع, تتكرر في ديوانه مفردة الصبر أكثر من مئة مرة, وغالبها (الصبر الجميل), يقف مراراً محفّزاً ذاته على اليقين والرضا والمهادنة, يحلّل طبعه الأبيّ الفروسيّ في غاية التفاهم والتصالح مع الذات:
جراحٌ, وأسرٌ, واشتياقٌ, وغربةٌ
أُحَمَّلُ ؟! إنّي بعدها لَحَمولُ
وإنّي في هذا الصباحِ لصالحٌ
ولكنّ خطبيَ في الظلامِ جليلُ
وصفتُ هذا النص -قبل سنوات عدّة- بأنه (الراية البيضاء) لأبي فراس, ومع الأيام وتأمل قِطَع النصوص, وإعادة ترتيبها, يثبت لي أنه لم يستسلم ولم ينتصر, فلماذا أختزلُ حياته في معركة واحدة؟! وجدتُ بتأمل قِطَع صورة أبي فراس أن أهونَ موجعاته: الأسرُ, وأنّ أبلغَ جراحه: في السلم, وأنّ الجنود في كل معركة بضعةٌ من روحه, يعودون -إن عادوا- بجراح مثخنة, ودموع سخينة, فيرضى ويقف في مركز الدائرة, في منتصف المنحنيات, أبعد ما يكون عن الحدّية, بدليل أنه عند نقطة الرحيل الثلاثينيّ الباكر قال:
ومن لم يوق الله فهو مُمزّقٌ
ومن لم يُعزّ الله فهو ذليلُ
ومن لم يرده الله في الأمر كله
فليس لمخلوقٍ إليه سبيلُ
وأما الغاية, فما أصعب إطلاق الأحكام النقدية على طباع الشعراء ونفوسهم, أحكام جدير أن يتبنّاها من أكمل ترتيب القطع, وتجلّت له الملامح, ولن تكون إلا بأدب الغوص وكثرة (التجريب) في محاولة لفهم تلك النفوس الصعبة, على أضواء نصوصها وأشجانها -كلِّها-, كل نص قطعة تحتاجها الصورة, لا تغني فيها قصيدة عن أخرى, لمن أراد أن ينظر للشاعر المبدع في الصورة الكاملة, تلك ا لصور المظللة بخيبات, والمترعة بحسرات ما يكاد يحملها, آخرها مزعج وأولها!
- نايفة العسيري