الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يعد الانحراف الفكري أخطر انحراف يقع في المجتمع المسلم، وتتمثّل خطورته في أنه الطريق المعبّد إلى السلوكيات التي سيسلكها الشخص المتأثر بها، ويبرز خطر الانحراف الفكري على الناشئة والشباب بالذات، لأنه من أبرز التحديات التي تواجه أمننا الاجتماعي.
ويرى بعضهم أن أساس المشكلات التي تواجه الشباب هو عدم الفهم الحقيقي والوعي الكامل لدينه وعدم رؤية القدوة الصالحة التي تجذبه وتشدّه، وإن النصائح وحدها لا تكفي ولا تشفي!
ويمثل المحافظة على فكر الأفراد وصيانته من الانحراف القاعدة الأساسية لتحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع. وأن مسؤولية حماية الشباب من الانحراف يقع على الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة والإعلام وكل المؤسسات في المجتمع.
«الجزيرة» ناقشت قضية الانحراف الفكري في المجتمع لأهميته، وتزايد خطورة التفريط فيه مع عدد من ذوي الاختصاص.
قضية خطيرة
بدايةً يقول الدكتور عبدالله بن علي بصفر الأمين العام للهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم قضية الانحراف الفكري قضية خطيرة، فهذا الانحراف أشدّ ضرراً من أيّ انحرافٍ آخر، سواء في الأخلاق -مثلاً-، أو في غيرها، فالانحراف الفكري، والعقدي، له أضرار عديدة، ومصائب جمّة، منها: أنه يخرج الإنسان ويبعده عن الإسلام الصحيح، عن هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، عمّا جاء به القرآن، والسنة النبوية، من هدايات وإصلاحات وإرشادات، فالانحراف يبعد صاحبه عن هذا الهدي، وعن هذا النهج، فيخرج به عن الصراط المستقيم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أوصانا بالتمسّك بكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبداً: كتاب الله، وسنة نبيّه).
فكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- هما المنجى من هذا الانحراف الفكري، وذلك لأن الكتاب والسنة وحيين لاشك فيهما من رب العالمين، والله -عز وجل- هو الأعلم وهو الأحكم، وهو الذي يهدي عباده وخلقه إلى الصراط المستقيم، وإلى الهدي القويم الذي لا شك فيه ولا ريب، وما دمنا مؤمنين بأن القرآن حق، وأن فيهما الخير، وأن فيهما الهداية، وأن فيهما النجاح والفلاح، فلابد لنا إذاً من الاعتصام بهما، والتمسك بهما، والعودة إليهما، وإن التمسك بالكتاب والسنة جاءت فيه آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الفهم الخاطئ
ويشير د. بصفر إلى أنّ الانحراف عن الكتاب والسنة هلاك، الذي انحرف عن كتاب الله وعن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصةً في الفكر وفي العقيدة -والعياذ بالله- على خطرٍ عظيم، وهو هالك كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث.
وقد يستغرب الإنسان! كيف ينحرف الناس في أفكارهم وفي معتقداتهم، والقرآن بين أيديهم؟! وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أيديهم؟!
والجواب: أن هؤلاء الذين انحرفوا في أفكارهم اعتمدوا على فهمهم هم للقرآن والسنة، ولم يفهموا القرآن والسنة بفهم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسلف هذه الأمة الصالحين، وعلماء الأمة الأثبات، والواجب الرجوع إلى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتابعيهم بإحسان من سلف هذه الأمة، وإلى أهل العلم الثقات الأثبات لمعرفة معاني الكتاب والسنة وأحكامهما، وعن تميمٍ الداري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
العودة للعلماء
ويؤكّد د. عبدالله بصفر إلى أنّه يجب العودة إلى العلماء في فهم معاني القرآن والسنة، فهم الذين ينصحون لكتاب الله تبارك وتعالى، ويرشدون الناس إليه، وإلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يمكن أن نفهم القرآن، ونفهم السنة، فهماً صحيحاً، دون الرجوع إلى أهل العلم الشرعي، فهم أهل الاختصاص في هذا الشأن، وهم الذين يبيّنون لنا الناسخ من المنسوخ، والمجمل من المبيّن، والصواب من الخطأ، والحق من الباطل، أما أن يقرأ الإنسان النصوص، ويفهم منها ما أراد، دون الرجوع إلى أهل العلم، ففي هذا خطرٌ عظيم، والعلم إنما يؤخذ من العلماء الذين أفنوا حياتهم في تعلم القرآن والسنة، واللغة العربية، والفقه، والأصول، والحديث، ومصطلح الحديث، وغيرها من علوم الشريعة الكثيرة، حتى تمكنوا فيها، فهؤلاء لا يستوون مع شبابٍ حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن ويفسرونه على ظاهره، ويحمّلونه أكثر مما يحتمل، مما يؤدّي بهم إلى الانحراف والضلال، وهذا الانحراف إنما يأتي نتيجة جهل بعض هؤلاء الشباب بالقرآن والسنة، أو عدم ارتباطهم بالعلماء الذين يفهمون القرآن ويفسرون لهم تفسيراً صحيحاً، معتمدين في ذلك التفسير على أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أقوال الصحابة، والتابعين، وكبار المفسرين، لا يعتمدون على أقوالهم، ولا على آرائهم، ولا على أهوائهم، ولا على مجادلتهم، وإتيانهم بالشُّبه، وترك المحكم من النصوص.
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما ضلّ قومٌ بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ثم قرأ قول الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}.
جريمة مغلطة
ويشير د. عبدالله بصفر إلى أنّ هذا الانحراف الفكري الذي رأيناه في الأيام الأخيرة، نتج عنه فتاوى ضالة، وآراء منحرفة، تجيز قتل المستأمنين، وتجيز قتل المعاهدين، وتجيز التدمير والتخريب، وغير ذلك من الأمور الفظيعة الشنيعة التي هي عبارة عن جرائم مجتمعة، وكل جريمة منها جعل الإسلام لها حداً، وجعل لها عقوبة شديدة، فكيف إذا اجتمعت كل هذه الجرائم مع بعضها البعض، والعياذ بالله -عز وجل-، لاشك أنها تكون جريمة مغلظة، ومصيبة عظيمة، وفسادا في الأرض، ولا شك أن هذه الأحداث الإرهابية التي سمعنا عنها في الآونة الأخيرة، نتجت عن الانحراف الفكري، ونتجت عن فتاوى ضالة، وأن هؤلاء الذين انحرفوا عن الجادّة قد وقعوا في فخ من الشيطان الرجيم، فضرّوا أمتهم، وقدّموا لأعداء الإسلام خدمة عظيمة بتشويههم لصورة هذا الدين العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأن هذا الانحراف في الفتاوى، وفي الأفكار، وفي الاعتقادات نتج عنه هذه التفجيرات، ونتج عنه هذه المصائب الكثيرة، فلذلك نقول: إن الانحراف الأخلاقي أهون من الانحراف الفكري، الانحراف الخلقي ينحرف الإنسان فيه في نفسه، وعلى نفسه، فإذا لم يتب إلى الله -عز وجل- فهو على خطرٍ أيضاً، لكن ضرره يختص به هو دون غيره، ولكن الانحراف الفكري يجني به الإنسان جناية عظيمة، على نفسه، وعلى أهله، وعلى مجتمعه، وعلى أمةٍ كبيرة من الناس، وعلى سمعة المسلمين؛ فلذلك اعتبر العلماء الانحراف الفكري أعظم من الانحراف الخلقي، لأن ضرره لا يقتصر على صاحبه بل يتعدّاه إلى تشويه سمعة هذا الدين العظيم السهل السمح، كما أن الانحراف الفكري عادةً لا يتوب المبتلى به منه بسهولة، بخلاف المنحرف أخلاقياً، فإنه سرعان ما يرجع إلى الله ويتوب.
معالجة الانحرافات
ويوجز الدكتور سليمان بن صالح الغصن الأستاذ بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الموضوع لمعالجة الانحرافات الفكرية في المجتمع، وذلك وفق النقاط التالية:
- الاهتمام بترسيخ العقيدة الصحيحة في أركان الإيمان من خلال المناهج الدراسية والبرامج الإعلامية والمناشط الدعوية.
- تعظيم مصدر التلقي (القرآن الكريم والسنة النبوية) واحترامهما وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله.
- الاهتمام بتحصين النشء وتحذيره من الدعوات المنحرفة وتوجيهه للسلوك الأمثل للتعامل معها ومع أصحابها.
- للعلماء وطلبة العلم والدعاة مهمة عظيمة في رد الشبهات وتفنيدها وإظهار فسادها وبيان خطورتها.
- تعزيز مكانة العلماء واحترامهم والصدور عن آرائهم والاستماع إلى توجيهاتهم.
- على المؤسسات الإعلامية واجب كبير في الإسهام في لجم كل انحراف، وإبراز عواره، والتحذير من عواقبه.
- تنشئة الجيل على لزوم الجماعة والحذر من الآراء الشاذة، والأفكار المنحرفة، والاجتهادات الغريبة.
تصحيح الخطاب الديني
ويشير الشيخ نايف بن محمد العساكر المستشار والباحث في شؤون الجماعات المتطرفة أنّ الأمن الفكري أن يعيشَ الناس في مجتمَعِهم آمنين مطمئنِّين على مكوِّناتهم الدينية والثقافية ومنظومَتِهم الاجتماعية على اختلاف مصادرها، ويعتبر سلامة الفكر ركيزة هامة وأساسية في حياة الشعوب على مر العصور، ومع حرص الأمم والحضارات على تحقيق الأمن الفكري فقد خرجت جماعات متشددة تعيش أزمات فكرية تختلف منطلقاتها إما أن تكون اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو دينية، وهي متنوعة على حسب العصر والحضارة التي تعيش فيها.
أما في زماننا هذا فقد استطاعت الجماعات المتأسلمة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين من إحداث أزمة فكرية منحرفة استخدمت فيها الجماهيرية الشبابية على وجه الخصوص لمصالح الجماعة والحزب مما أدى إلى اتساع دائرة الانحراف الفكري، مستغلين بذلك توغلهم في المؤسسات التعليمية والدينية، ومن سبل علاج الانحرافات الفكرية:
- تبني فكر التعايش مع المخالفين، وهو المنهج الإسلامي المعتدل (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.)
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المخالفين من اليهود والنصارى، كان يبايعهم ويخالطهم ويزورهم..
وفعل الصحابة رضوان الله عنهم حتى قال عمر لليهودي الذي كان يتسول في شوارع المدينة لأجل دفع الجزية: والله ما أنصفناك نأخذ منك شاباً ثم نضيعك شيخاً والله لأعطينك من مال المسلمين..
- تثقيف الأجيال بخطر الأحزاب والجماعات المنحرفة الإرهابية، والتي حظرتها الدولة في بيان وزارة الداخلية.
- إظهار فضائل هذه الدولة المباركة وحرص ولاة أمرها على خدمة قضايا الإسلام والمسلمين.
- إبراز نصوص وجوب السمع والطاعة والمدونة في الصحيحين لكونها أصلا من أصول الدين، وتعليمها للأجيال في جميع المراحل الدراسية.
- منع المشبوهين والحزبيين أو المتعاطفين معهم من وسائل الإعلام والتعليم والإفتاء.
- تصحيح الخطاب الديني المتشدد الذي ساهم في نشره الإخوانيون الحركيون عبر تغلغلهم القديم في المؤسسات التعليمية والدينية.
- إيضاح موقف بعض المنسوبين للمؤسسة الدينية الرسمية من الذين قاموا بالثناء على دعاة الثورات والإخوانيين وقاموا بزيارتهم وتبجيلهم، مما أدى إلى تعلق كثير من الشباب بهم.
- قيام وزارة الشؤون الإسلامية بواجبها المناط بها في تفعيل البرامج الشبابية الوسطية، ولاسيما وهي مدعومة من ولاة الأمر دعمًا منقطع النظير، ولم نجد لهذا الدعم الكبير أي عمل يذكر فيشكر، حيث إننا نلاحظ أن وزارة الداخلية بقيادة ولي العهد -رعاه الله- هم من يقومون بهذا المهمة والعمل الجبار، في ظل برود بعض الجهات التي تغرد خارج السرب.
- تفعيل دور الوطنيين والمثقفين المعتدلين في خدمة الوطن وعدم تهميشهم من المؤسسات الرسمية.