ياسر صالح البهيجان ">
الثقافة المصطنعة شبيهة بالمشهد الدرامي المتأسس على كتابة مسبقة لأفعال الممثلين بهدف كسب تعاطف الجماهير وإيجاد نوع من الواقعيَّة الوهميَّة؛ ليتسلل للمشاهد إحساس بأنَّه أمام موقف حقيقيّ جدير بالتفاعل معه والتحوُّل من مرحلة المشاهدة العابرة إلى مستوى أعلى من الاندماج والتكيُّف، وتبني وجهات النظر دون محاكمتها عقلياً، وتفحصّ تفاصيلها قبل قبولها بعلاتها المقيتة.
وسلبيَّة الاندماج في المشهد الدرامي هي ذات السلبيَّة التي تنطوي عليها الثقافة المصطنعة، إذ إنَّ ذلك الاندماج والتفاعل مع الحدث الوهمي أتى عبر حيلة استطاعت تجاوز آليَّات العقل وقوانينه الصارمة في الحكم على الأشياء، لتتجه بخطابها إلى عاطفة الإنسان الهشَّة والقابلة للاختراق لاتصالها المباشر بمكبوتات الفرد وآماله غير المتحققة على أرض الواقع، ليصبح اندماجاً مؤدلجاً يسير عكس تيار الوعي ويسلب الفرد قدرته على فهم مجتمعه فهماً سليماً.
حالة تصوير (السيلفي) التي تعد ظاهرة ثقافية تكنولوجية تأسست داخل الأوساط الشبابيَّة بوصفها وسيلة مبتكرة للتعبير عن الموقف الحاضر بكل تفاصيله الواقعيَّة، تعرضت هي الأخرى لمدِّ الثقافة المصطنعة بعد أن استطاعت الأخيرة كعادتها التسلُّق عليها ومحاولة سلب براءتها عن طريق التخطيط المسبق لالتقاط الصورة والترويج لها على أنها تجسيد لحدث عفويّ غير ممنهج لتحظى بتفاعل الجماهير العاجزين عن رؤية ما لم تنقله لهم عدسة الكاميرا.
اتخذ بعض المسؤولين أخيراً سياسة التقاط صور (السيلفي) مع المواطنين خلال جولاتهم الميدانيَّة التي هي في صميم عملهم اليومي بأسلوب يظهر العفويَّة ويضمر التخطيط المسبق الذي يمثل ركيزة رئيسة في الثقافة المصطنعة المنطلقة من مدونة ثقافية تعزز فكرة إطالة أمد الشخصيَّة في منصبه أكثر من ميلها إلى تحقيق المصلحة العامة، ونادراً ما تؤمن بأن الإنجازات لا يمكن أن تُترجم واقعياً إلا عن طريق تراكم معرفيّ وتعاقب عقول ذات توجهات مختلفة تحمل هماً وطنياً مشتركاً، وتلك المدوَّنة تبحث بقوَّة عن طرق مستحدثة في ظل الثورة التقنيَّة وتطوُّر الدراسات المتصلة بالدعاية والتسويق لترسيخ أقدام بعض الأفراد في مناصب قياديَّة.
تضخُّم (الأنا) في الثقافة العربيَّة داء لا يزال يمارس عمليَّة النخر في جسد المجتمعات، واجترار بيت المتنبي الذي نظر الأعمى إلا أدبه وأسمعت كلماته من به صمم وما على شاكلته تغذِّي اتجاه الثقافة نحو الفردانيَّة الباحثة عن الانفراد بالمنجز على نحو أنانيّ يضاعف حالة العداء داخل المجتمع ويخلق جواً تنافسياً قد يحيد أحياناً عن النزاهة. ولا تجد الثقافة حرجاً في تقديم سلسلة من المبررات ليخرج الكائن الأناني من دائرة جلد الذات ويرى في سلوكه الإقصائي خصلة حميدة وإنسانيَّة تدعو إلى الاعتزاز.
من يقفون خلف تصنيع الثقافة وتصديرها للمجتمع يرصدون بدقَّة تحولات الظواهر الاجتماعيَّة، ويسعون لاستغلال ما تنتجه الثقافة الشعبيَّة لجعله ميداناً جديداً يخدم الأنساق الثقافية السلبيَّة، كظاهرة تصوير (السيلفي) وشبكات التواصل الاجتماعي. بدلاً من أن يصبح التطوُّر التكنولوجي وسيلة للارتقاء بالمنجز الثقافي بات سلاحاً يسهم في تغلغل تلك الأنساق داخل عقليَّة الأفراد ليرفع مستوى التبعيَّة وحالات العمى الثقافي.
الأنساق الثقافيَّة المضمرة عادة ما تكمن في المضامين وليس في المظهر الشكلاني للظاهرة الاجتماعيَّة، إذ إنها تتخذ مما هو جمالي ستاراً للسير في الخفاء ونيل الأهداف غير النبيلة، ومن أجل هذا تأسست الدراسات الثقافيَّة الساعية إلى الكشف عن غير المعلن في أي خطاب متوجه إلى الجماهير، لما تمثله تلك الخطابات من تهديد يمسُّ معتقدات أفراد المجتمع ومسلماتهم، إلى جانب محاولتها الالتفاف على الحقائق وتزييف الوقائع لتحقيق مصالح ثلَّة قليلة تقف عائقاً أمام ما يخدم الصالح العام.