إنني مدركٌ لحجم الخطورة التي أقبل عليها، أعلم تمامًا أن شابًا في الخامسة والعشرين من عمره يحاول لاهثاً أن يتحرر من النظرة العادية للأشياء من حوله لينفذ بفكره عبر الأغشية والحُجب التي لا يكف الواقع يكثّفها حولنا ليحدق في جوهر الحياة، هو عمل ليس سهلاً، بل هو شديد الكلفة والتعقيد، بل هو تورط ومجازفة ربما كان الحديث عن حقل ما من حقول العلم يسيراً، فأنت مُطالب بالتقيد بمعايير البحث العلمي والالتزام بدقة النتائج المستخلصة من عصارة تجارب العلماء السابقة..
أولئك الذين أفنوا أعمارهم في البناء والتحليل والتعليل، فعندما تتوفر على شروط البحث العلمي أصبح بإمكانك أن تضيف لمسار هذا العلم، وأن تضع لبنةً فوق بنائهم.. لكننا نتحدث عن الحياة، هذه الكلمة المفخخة، المعنى الأعمق المحروث عميقًا بدم المفكرين والفنانين والفلاسفة، والتي جاء شاب يعتصر الوجود بمخيلة كونية ليقول ههنا كلمة عنها.
في البدء لا بد من القول بأن ثمة مأزقاً لا فرار منه في حديثنا هذا، فعندما يتعلق الحديث بالحياة فهو بالضرورة المنطقية متعلق بالإنسان، إذ إن الحياة تفقد كل معنى في حال انعدام وجود الإنسان، فلا حياة دون الإنسان ولا إنسان بلا حياة.
وهذا التعالق الدلالي والمعنوي بينهما يجيء ككتلة واحدة متراصة ومتداخلة، لا فكاك عند الحديث عن أحدهما من الإشارة للآخر.. سأنطلق من معتقد شخصي لأقول، إن الأنسان خريطة بيضاء شاسعة غير مخطوطة وغير متناهية، لا ترى أطرافها فهي ممتدة بلا حدود، حاولت الأيديولوجيات الكبرى منذ مطلع فجر التاريخ وحتى الآن رسم وتقييد وتوجيه خطوطها تحت أفق معين ولم تفلح، فتمرّد الأنسان وكسّر الأغلال، وحاولت الأنظمة والتعاليم الوضعية بتعدد صيغها العالمية والمحلية أن تؤطره وتصهرهُ داخل منظمومة قوانينها فلم تستطع، فتهجّم عليها وقفز بعيداً خارج أسوارها تقودني القراءة الموضوعية - غير الموجهه لهوى حزب مسيّس أو مظلة مليّة معينة - للتاريخ لتشبه ثان للإنسان، وهو أنه كائن باحث عن الذروة، دائب البحث عن ذروة عليا، صاعد أبداً بقلق محموم نحو قمة لا يراها، يسير نحو غاية أسمى وأعمق وأبعد في هذه الرحلة الأرضية الدنيوية، وإذا اعتبرنا هذه مقدمة، فالنتيجة هنا هي تعذّر وصف الأنسان بأنه منتج نهائي تشكّل وفق صيغ محددة صاغتها أيدولوجيات فكرية محددة، وامتدادًا لهذه النتيجة، نرى أنه لا يمكن القول بأن الأنسان قيمة أفرزتها الحضارة وتراكم التاريخ وتلاطم الأفكار عبر القرون الطويلة، ثم حُللت وفُكّكت هذه القيمة الناتجة عن طريق دراسات علمية واجتماعية ونفسية متقدمة، لتخبرنا ما أشواق هذا القيمة الإنسانية الدفينة، كما لا يمكنها أن تطفىء اللظى المتّقد في وجدانه حول الأسئلة النهائية الكبرى المتعلقة بصميم الوجود الإنساني كالغاية من الوجود والمصير وحياة ما بعد الوجود، ما بعد الموت يأخذني هذا المعتقد حول الإنسان بأنه كائن يمتاز بديمومة البحث عن الذروة من الاقتراب من النظرة الدينية التي تربط وجود الإنسان حيًا على وجه الأرض بعمارتها، وخلع صفة الخليفة عليه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}).. وعمارة الأرض لا يمكن أن تتم دون عمارة الإنسان أولاًً بالمعرفة وتزويده بأدواتها، ومن هنا كانت النظرة الوحيانيّة - بتعبير عبد الكريم سروش - بناءً مباشراً للإنسان في الأرض. هذه المعادلة الثلاثية الأطراف (المعرفة الآتية من الوحي المنزلة من الغيب - الإنسان وهو المكلف بهذه التعاليم - الأرض المعمورة من قبل الإنسان) تنقلنا لجوهر موضوعنا، لنقول إن الحياة ليست مفهوماً ناجزاً، فلا يمكن الحديث عن حياة خبرت الاكتمال، لأنها مفهوم نام باستمرار ومفتوح على المسقبل، وتساؤل لا يكف يزداد تعقيداً وتشابكاً، فليس ثمة معارف منجزة في الحياة، ولا نظريات وضعية نهائية تزعم أنها تيقّنت من إدراك البعد الخلاصي، ولعل هذا هو الخيط الرفيع الذي يصلنا بمعتقدنا أن الإنسان ليس صيغة نهائية مقررة وإن حاول الفلاسفة فعل هذا، كما شرحنا من قبل، ومن هنا رأينا أن التصور الديني عن الإنسان - كخليفة في الأرض - هو الأقرب لتعريف ظاهرة الإنسان شديدة التركيب والتعقيد ومن تملك التصور الكامل له والقدرة على استشراف مآلاته لهذا كانت الأحاديث حول تفسير نشوء وقيام ومعنى الحياة إما مقترباً من التصور الديني أو مغرقاً في التجربة الذاتية، فهذا المخرج وعازف الجاز الأمريكي وودي آلن ( 1935م) والذي تقترب أفلامه من النظرة الفلسفية للحياة يقول في مؤتمر صحفي: لا يوجد إجابة متفائلة حول قسوة هذه الحياة، مهما تحدث الفلاسفة أو رجال الدين أو علماء النفس، فخلاصة ما يُقال إن الحياة تسير وفق أجندتها الخاصة وليس كما تريد أنت، وأنا جميعاً سوف ننتهي إلى مكان في يوم إما آجلاً كان هذا أم عاجلاً، وما يمكنك فعله كفنان هو أن تعطي للناس تبريراً لماذا هذه الحياة تستحق أن تعاش وأنها شيء إيجابي ويحمل معنى ما ولا يمكنك فعل هذا دون أن تخدعهم، لأن الحقيقة في النهاية أن الحياة بلا معنى، ولذلك فاستنتاجي هو أن مهمة الفنان والتي يعوّل عليها فعلاًَ هو التشتيت وتشتيتهم عن هذا الواقع.. لا يمكننا مساءلة وودي آلن حول رؤيته تلك عن معنى الحياة والتي من لوازمها أننا لسنا أكثر من دمى مقذوفين في العالم سهواً، نتحرك وفق ما تمليه الغرائز دون أدنى تصور لغاية أبعد في عبثيّة سائلة ورهيبة، ومن العبث جرّ هذا الكلام البهلواني لميدان العلم الصارم وإسقاطه على معاييره، فهو ملفوظ ومرفوض، فما يقوله ليس حجةً منطقيّة تدحضها حجة منطقية أقوى منها، كما أن كساد وتراجع النظرة الماديّة وتخلخلها أمام الدراسات الإنسانية الحديثة واضح بيّن يكون حديث آلن مقبولاً - وهو بحديثه يصدر عن مبادئ عدميّة بحتة - عندما نتخفف من التصور الماورائي للحياة، ويصبح أكثر تماسكًا في حال اعتقادنا بأفول واضمحلال التفكير الميتافيزيقي وتطهّرنا من أفكارنا الغيبيّة ورجمنا الأصول الربانيّة الضاربة في أعماق الإنسان، وهذا لأننا - حسب آلن - ليس بمقدورنا استطلاع مراد الحكمة الغيبيّة التي تخفى عنا، فنحن لا نملك سوى هذه الحياة وعلينا جميعاً التعامل مع تناقضاتها، أي أنسيكون مقبولاً عندما يقتلع الإنسان جذوره الفكرية الفطرية، بمعنى عندما يتخلص ويقضي الإنسان على نفسه فليست الحياة ما يقوله آلن ومن سلك دربه، ولا هي التصورات المثالية التي تملأ بطون الكتب، كما أنها ليست الواقع، ونعني بهذا أنها ليست تتابع اللحظات الواقعية المقرونة بالظواهر الطبيعيّة، وذاك لافتقار الظواهر الطبيعيّة لشرط الاتصال المستمر، إنها معنى غير ناجز، لذلك هي سؤال مفتوح أبداً على المستقبل.
- د.معتصم الهقاص