من مرابع امرئ القيس إلى منازل حاتم الطائي ">
في صباح الاثنين 15 أبريل 2013
استيقظت مبكرا، ولكنني هذه المرة لم أقم يتصوير شروق الشمس كعادتي، على الرغم من عشقي لهذا الشروق، لأنني صورته الأيام الماضية. انهمكتُ في الكتابة على اللاب توب الصغير وتسجيل يوميات الرحلة حتى جاءت سيارة جيب ذات لون بني فاتح في الساعة السادسة والنصف صباحًا، جاء يسأل كعادة أهل الصحراء عن سبب حضورنا؟ ولماذا أقمنا في هذا المكان؟ وإلى أية منطقة ننتمي ، فقمت بإيقاظ الدكتور عيد اليحيى ليبجيبه عن تساؤلاته، وبدأ الجميع فجأة في الاستيقاظ .
- من أنتم؟ « ومين اللي جابكم هنيّه» سأل راكب السيارة الجيب بصوت عال، وكان شعره طويلا ويحمل في كتفه سلاحًا رشّاشاً، وقد نزل إليه الدكتور عيد اليحيى ليجيبه ولم أنزل من الكرافان ولم أترجل وراقب بقية الرفاق المسألة من بعيد. فأجابه د. اليحيى عن تساؤلاته وأننا فريق بحثي في رحلة علمية تابعة لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وأراه صورة الخطاب الصادر من المركز لقيامنا بالرحلة.
بعد دقائق انصرف مسرعا قائد السيارة الجيب بسيارته.
واستيقظ الجميع مستنكرين هذه الأسئلة التي كانت شديدة اللهجة وعالية الصوت،
ثم بعدها بوقت قصير تم إعداد طعام الإفطار اليومي وكان هذه المرة « كبدة الطّلي بالبصل» وصنع د. عيد اليحيى عددا من أرغفة الخبز.
تناولنا طعام الإفطار، وفي التاسعة والنصف كنا جاهزين للرحيل من دارة جلجل إلى «مأسل» أو وادي مأسل الذي ذكره امرؤ القيس في معلقته حين قال:
كدأبك من أم الحويرث قبلها
وجارتها أم الرباب بمأسلِ
كان علينا أولا أن نقوم بتصوير دارة «جلجل» حيث قام المصور طارق المطلق بتصوير الدارة من مرتفعات مختلفة ومن زوايا مختلفة.
قمت بالتقاط عدد كبير من الصور لدارة جلجل لأن هذا المكان الأثير لدى امرئ القيس أثير جدا لدى من يعشق امرئ القيس وشعر ما قبل الإسلام.
لقد سجل امرؤ القيس مختلف الأمكنة التي عبر بها، سجل الطرق، والجبال، والتلال، وتفاصيل حياته اليومية في الحل والترحال، وتفاصيل البيئة من حيوانها ونباتها ومرتفعاتها بشكل شعري دقيق.
لقد اقتنعت تماما وبما لا يدع مجالا للشك بأن حكاية انتحال الشعر التي ذكرها الدكتور طه حسين غير صحيحة على إطلاقها.
فامرؤ القيس -مثلا- ذكر بدقة الأماكن التي عبرها، ودارة جلجل بتلالها وجبالها كما هي، باتساعها وبموقع واديها الذي تتشكل الغدران فيه مع هطول المطر وشدة السيول حيث تبقى الغدران عدة أيام بعد توقف المطر.
كانت الساعة حوالي الحادية عشرة حين بدأنا في الانطلاق من «دارة جلجل» باتجاه «مأسل» كان علينا أن نعود إلى «هاجرة أبي سرحة» على مفترق طرق الأماكن التي زارها امرؤ القيس أو عبر بها، وقبل الانطلاق وصل إلينا رجلان من سكان وادي الدواسر كنا قد قابلناهم من قبل وهما اللذان أرشدانا إلى «دارة جلجل» حيث تناولا القهوة والشاي وانصرفا بعد أن وعدانا بالمساعدة في الوصول إلى أي مكان نحتاج الوصول إليه.
بعد أن انصرف الضيفان تحركنا باتجاه: «أبي سرحة» أو أي مكان آخر ننطلق منه بعد أن نملأ السيارات بالبنزين، فأخذنا وقتا طويلا في البحث عن هذا المكان لأن الطرق وعرة وغير معروفة ومليئة بالجبال والصخور والأحجار المدببة وأشجار السمر الجافة على الأغلب.
حين وصلنا إلى الهاجرة : «هاجرة أبي سرحة» وجدنا شابين من أهل وادي والدواسر يسألاننا عن وجهتنا. فقلنا لهما: «مأسل». فقال أحدهما: أعرفه تماما. وسأعود بكم تارة أخرى لأنه قريب من هنا على مسافة 30 كيلو مترا استرحنا قليلاً لأداء صلاة الظهر، بعدها ركب الدليل السيارة الداتسون مع صديقه، وانطلقنا وراءه إلى حيث وادي «مأسل» الذي شهد مغامرة وجدانية من مغامرات امرئ القيس المتتالية تحت شعار: «...وجارتها أم الرباب بمأسل». في الساعة الثانية ظهرا وصلنا إلى :» مأسل».
على الفور ترجلنا من سياراتنا، وقمت بتصوير المدخل إلى وادي مأسل والوادي نفسه.
كان الوادي عبارة عن مكان منبسط ممتد لكنه ينقسم إلى واديين:
- الأول : وادي «مويْسل» تصغير: «مأسل»
- والثاني: « مأسل»
والثاني هو الذي ذكره امرؤ القيس في معلقته وشرب من بئره.
وادي « مويسل» عبارة عن وادي صغير طوله 200 متر وعرضه حدود 60 مترا يتوسطه بئر وفي طرفه الأيمن غدير ماء ، وعلى طرفي الوادي توجد مرتفعات جبلية من الجرانيت على اليمين وعلى اليسار . الوادي به بعض الأشجار من « السمر» و» الطلح» وبعض الأعشاب المتناثرة.
أما « مأسل» فيشبه «مويْسل» إلى حد بعيد إلا أنه أبعد طولا، وتحيطه الجبال من اليمين واليسار، ويتوسطه بئر وقد قمت بتصويره وتصوير البئر.
بعد ساعة انصرفنا من المكان لنتوجه إلى جبل «الصاقب» الذي ذكره الحارث بن حلزة في معلقته، حيث قال:
إنْ نبشتم ما بين ملحة ، فالصاقبُ فيه الأمواتُ والأحياءُ
جبل الصاقب يبعد عن وادي « مأسل» ومرتفعاته، نحو 70 كيلو مترا وعن هاجرة « أبي سرحة» 50 كيلو مترا .
توجهنا إلى جبل «الصاقب» بعد تموين السيارات بالبنزين، وقطعنا الصحراء الطويلة الشاسعة المليئة بأشجار «السمر» و»الطلح» وبعض الأشجار الأخرى، ملايين الأشجار من السمر والطلح والأشجار المتنوعة، إنها غابة كثيفة من الأشجار ، مع ذلك توجد طرق ترابية لعبور السيارات، بالإضافة إلى «جادة» الإبل التي شكلت طرقا صغيرة بامتداد الصحراء .
وصلنا إلى جبل «الصاقب» وقمنا بتصويره.
ثم انطلقنا بعد ذلك إلى الهضاب المتناثرة في وادي الدواسر وبدأنا ب» الدخول» الذي ذكره امرؤ القيس في مستهل معلقته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
لكن بعد أن انتهينا من تصوير جبل الصاقب، فوجئنا بعاصفة رملية مستمرة بدأت من الخامسة مساء وامتلأ الجو بالغبار والعجاج.
العاصفة الرملية كانت متحركة على ارتفاع مترين من الأرض ، وجاءت من الشمال تارة ومن الجنوب تارة ، وفي وقت متزامن تارات أخرى . هي الرياح التي وصفها امرؤ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعفُ رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمألِ
فهي بالفعل تنسج صورة الأرض ، وصورة الصحراء وتقوم بتشكيلها من جديد في صورة حيوية متحركة، حيث تأتي الرياح من الجنوب فتغطي الأثر أو الطلل، ثم تأتي الرياح من الشمال فتكشفه تارة أخرى.. وهكذا في حركة مستمرة بين الإخفاء والتعفية، والكشف.
استمرت العاصفة الرملية وأخذت تشتد، وأصبح الغبار يملأ الأجواء، وكنا قد أوقفنا السيارات عند جبال سقط اللوى، لكن قرر الرفاق أن يسيروا بالسيارات ببطء في اتجاه جبال « الدخول» التي تبعد 5 كيلو متر عن « سقط اللوى» على الرغم من العاصفة الرملية التي ترافقنا وتضرب السيارات أحيانا برمالها وغبارها.
بدأت قطرات المطر تسقط بهدوء، واستبشرنا خيرا أن يأتي المطر فيغسل أجواء الصحراء المتربة .
بمجرد أن وصلنا إلى «الدخول» بدأنا في البحث عن مكان مناسب للمبيت . كانت العاصفة قد خفت قليلا ولكن زادت سرعة الهواء ، والمطر يسقط ببطء.
بعد أن عثرنا على مكان ملائم في مكان مفتوح لكن تجاوره مرتفعات «الدخول» عبارة عن خمسة مرتفعات جبلية وهضاب صغيرة أكثرها ارتفاعا نحو 30 مترا وأدنى سفوحها نحو 7 - 10 أمتار.
بدأ المطر يزداد هطولا مع سرعة الرياح، وبدأنا بسرعة في فتح كرافان السيارة وإعداده للمبيت وبللنا المطر جميعا.
بعد إعداد الكرافان بدأ الطباخ الهندي، ود. عيد اليحيى في إعداد طعام العشاء ، فقام بطبخ بقية لحم «التيس» المحفوظ في ثلاجة الكرافان مع مكرونة «اسبكايتي» وكنا نساعد في غسل الأطباق أو تقطيع البصل ، وتجهيز أدوات الطهي. حيث كان الكرافان مجهزا بثلاجة وأدوات مطبخ .
بعد ذلك جلست في مقدمة السيارة، وأغلقت نوافذها قليلا وبدأت في كتابة يومية من هذه الرحلة.
كان المطر مايزال يهطل، والأجواء باردة قليلا.
بعد ساعتين وفي العاشرة مساء كان الطعام قد نضج، وكنت حبّرت بعض الصفحات، ونادى عليّ د. عيد لأتناول الطعام.
تناولنا جميعا طعام العشاء الساخن، وقام العامل الهندي بتنظيف المكان ثم إعداده للنوم بالمراتب والبطاطين والمخدات التي معنا.
نمنا جميعا، بعد أن أعد المصور بعض صوره ونقلها من كاميرته إلى جهاز اللاب توب.
نمنا، وقد قررنا التقاط صور الدخول وحومل وسقط اللوى صباحا بعد أن يتوقف المطر، وتعتدل الأجواء . وفي الصباح كانت الأجواء مواتية تماما مع شروق الشمس، حيث توقف المطر الذي كان يسقط طوال الليل ما بين مطر خفيف ومطر كثيف.
استيقظت وحيدا الساعة 5.48 صباحا وقبلها كانت لي استيقاظات متقطعة أنظر فيها للساعة فأجدها حينا 2.40 وحينا 3.24 ثم أجدها 4.20 ثم أستيقظ بشكل نهائي في 5.48 صباحا وأنزل من الكرافان الساعة 6.00 صباحا لأقوم بتصوير لحظات شروق الشمس الرائعة الجديدة.
في يوم جديد هو الثلاثاء 16 أبريل 2013م وقد قررت كما ذكرت سابقا، مقابلة امرئ القيس بسقط اللوى بين الدخول وحومل بالملابس الرسمية ، كما بدأت تجيش في مخيلتي إرهاصات قصيدة كتبت بعضها وعنونتها بـ: «مقابلة مع امرئ القيس بين الدخول فحومل» أتمنى من الله أن تكتمل ومطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
فإن دموع الروح تحلو وتعتلي
هنا حدقات الكون تلقي سؤالها
وتشهد في الصحراء بعض تخيلي
هنا الليل يغلي في سواد مسامه
ويصبغ أحزان الصخور بمأسلِ
على كل حبة رمل ارتاح موعد
يكاد يصلي للحنين ويصطلي
أيا فارس العشاق جئتك شاعرا
فخذ من سطوري يا امرأ القيس واغزلِ
أتيتكَ في قلبي حريق من الظما
تطرزه ليلى بعشق مرتّلِ
في قلب الدخول
حسب المكان الذي توقفنا فيه للمبيت في وادي الدخول ومرتفعاته التي تحيط به، فإن هناك واديا بين جبلين طوله نحو 2000متر وعرضه نحو 800 متر . إذا جعلتَ وجهك جهة شروق الشمس فإن الجبل الذي على اليمين يبعد من الجبل الذي على اليسار نحو 800 متر وسيكون خلفك جبلان صغيران متوازيان. المسافة التي تفصل بينهما نحو 8 أمتار من الأسفل و 12 مترا من الأعلى ، وجهة الشرق تلال مرتفعة متعرجة ، أما جهة الغرب فالجبلان المتوازيان : الجبل في اليمين متدرج ويتألف من مجموعات صخرية، أما الجبل على اليسار فهو مرتفع وأملس ويجيء على شكل كتلة واحدة وتظهر به آثار خطوط السيول بسبب سقوط الأمطار بكثافة أحيانا .
أما الوادي نفسه فعبارة عن أرض منبسطة ، بعض أجزائها مليئة بأشجار « السمر» التي يصفها امرؤ القيس في معلقته ب» سمرات الحي» مع بعض الأعشاب المتناثرة والمكان يصلح للرعي حيث مرت أمامي الآن وأنا أكتب أسراب من الإبل التي ترعى في هذا المكان مع الإبل الصغيرة المولودة حديثا «الحور» و»الفصيل» وألوانها بين الأسود والأبيض والبني.
الساعة الآن 6.47 صباحا، والعصافير كثيفة تؤلف موسيقى زقزقاتها ولا تتوقف كأنها مغتبطة بالمكان وبالأجواء الربيعية المعتدلة . لكنني لم أستطع أن أفهم: ماذا توشوش لأغصان الشجر؟ وماذا تحكي لها عن أسرار أجواء: «الدخول»؟
- عبدالله السمطي