م. مازن خليفة ">
تتعدد أساليب التعليم والتدريب وطرقها وأهدافها ولكن يظل «التوجيه» أو ما يسمى باللغة الإنجليزية «Coaching»؛ من أقواها مفعولاً وتأثيراً، وقبل البدء بالتوسع في أساليب التوجيه وأنواعها واستخداماتها، يجب أن نتفق على تعريف موحد ومنطقي للتوجيه، وهو عملية إرشاد الفرد إلى الطرق المختلفة التي يستطيع من خلالها اكتشاف إمكانياته واستخدام قدراته وتعليمه وما يمكّنه من أن يعيش في أفضل حال.
وأهداف التوجيه المتفق عليها علمياً كثيرة؛ منها «تحقيق الذات» وهو العمل مع الفرد لتحقيق ذاته إلى درجة يستطيع فيها أن ينظر إلى نفسه فيرضى عما ينظر إليه. ومن الأهداف أيضاً «تحقيق التوافق» أي تناول السلوك و البيئة والطبيعية الاجتماعية بالتغيير والتعديل حتى يحدث توازنا بين الفرد وبيئته، وهذا التوازن يتضمن اتساع حاجات الفرد ومقابلته لمتطلبات البيئة بحيث يتحقق التوافق المتوازن في كافة المجالات كالتوافق الشخصي أو المهني أو الاجتماعي.
والحاجة للتوجيه تبدأ منذ مراحل النمو الأولى للإنسان وتزداد مع اتساع دائرة معارفه والتغيرات المصاحبة لذلك مثل التغيرات الأسرية والتعليمية والاجتماعية والدينية والاقتصادية حتى تصبح ضرورة من الضرورات لضمان التطور والتوازن.
وهناك أسلوبان واسعا الاستخدام للتوجيه، أولهما هو «التوجيه المباشر» الذي قد يكون بصيغة أوامر وإرشادات مباشرة من الشخص الموجه إلى الشخص المستفيد، وربما قد يكون هذا الأسلوب هو الأفضل في حالات معينة يكون عنصر الخبرة والمعرفة متوفرا لدى الموجه ومفقودا لدى المستفيد. أمثلة هذه الحالات قد تكون مطلوبة في القرارات الفردية كاختيار الأصدقاء، أو تعليم آداب وسلوكيات عامة لتحقيق التوافق الاجتماعي، أو تكون بشكل تلقين مباشر لنقل معارف ومفاهيم علمية لرفع مهارات معينة.
والأسلوب الآخر من التوجيه هو «التوجيه الانعكاسي» أو «التحليلي» الذي يكون بصيغة أسئلة واستفهامات يطرحها الموجه للشخص المستفيد بهدف البحث عن أسباب المشكلة ومن ثم التوصل إلى حلول عملية توافقية سواء شخصية أو اجتماعية أو مهنية لها. ويعرف عن هذا الأسلوب بأنه أكثر تأثيراً من غيره لأنه يأتي من داخل الشخص المستفيد مما يشعره بالإيمان المطلق بالحلول وبإمكانية تطبيقها ومفعولها، وقد يكون هذا الأسلوب ملائما لاتخاذ قرارات فردية كاختيار تخصص دراسي أو مسار مهني معين، أو اختيار شريك أو شريكة الحياة وغير ذلك.
وتعتبر من أهم عوامل نجاح عملية التوجيه باختلاف أساليبها هي تلاؤم كيميائية الشخص الموجه مع الشخص المستفيد والتي قد تضمن التفاعل الإيجابي واستمرار ونجاح عملية التوجيه وتحقيق أهدافها تبعاً. كما أن معرفة الموجه لأساليب وطرق التوجيه العلمية الصحيحة تساعد بشكل جذري في تكامل عملية التوجيه وتسهيل مهمة نجاحها.
وبعد أن استعرضنا تعريف وأهداف وأساليب التوجيه وعوامل نجاحها، وأخذنا بعين الاعتبار الحاجة الملحة لها لتصبح سمة ضرورية من سمات بناء المجتمع التقدمي والمعاصر، فربما قد تكون هي من أحد الحلول الجذرية للظواهر السلبية لمجتمعنا كظاهرة التشدد الديني أو ظاهرة العنصرية بكافة أنواعها أو الانحراف السلوكي وغيرها.
ويجدر الذكر بأن تطبيق التوجيه الصحيح والمساعدة على انتشاره بشكل مؤسساتي منظم قد يساهم في تطور المجتمع وتقدمه في كافة المجالات. ومن مقترحات التطبيق هي زراعة التوجيه في منظومة التعليم من خلال تدريب المعلمين وأعضاء هيئة التدريس على الأساليب العلمية للتوجيه لتصبح من الواجبات الأساسية لهم، كما أن تفعيل دور الإرشاد المدرسي والجامعي ليشمل بدوره التوجيه السلوكي والتوافق المجتمعي ناهيك عن المساعدة في اختيار التخصص العلمي والمسار المهني تبعاً. ومما لا يخفى علينا دور العائلة في عملية التوجيه المتكاملة، فقد يكون الاستفادة من مجالس الآباء والأمهات الدورية بتدريبهم على مهارات التوجيه وتوائمها مع مجهودات المؤسسة العلمية من أحد تلك الحلول لنشر ثقافة التوجيه الصحيح.
وقد لا يقتصر الدور فقط على منظومة التعليم، فإن تفعيل مراكز الأحياء ليشمل دورها تدريب وتثقيف الأهالي على مهارات التوجيه بشكل علمي منظم عن طريق دورات تدريبية مجانية مخصصة. بل من الأحرى أيضاً أن يتم مناقشة المشاكل التربوية المشتركة والوصول إلى حلول تكاملية يشارك في صنعها الأهالي والمختصون بذلك، قد يتساءل بعضهم عن إمكانية تمويل مثل هذه الفعاليات، ولكن مصادر التمويل كثيرة قد يكون أحدها من خلال رعاية تضامنية من القطاع الخاص عبر برامج خدمة المجتمع والتي هي من ضمن المسؤولية الاجتماعية للقطاع، بل قد يمتد الدعم أيضاً ليصل إلى الدور الإعلامي بكافة وسائله لتشمل زراعة ثقافة التوجيه كافة شرائح المجتمع عن طريق برامج توعوية إذاعية أو تلفزيونية أو حملات إعلامية منظمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ناهيك عن المساهمة في طبع وتوزيع منشورات وكتيبات مجانية تكون سهلة القراءة والتطبيق.
وأخيراً، التوجيه الصحيح هو مهارة تحتاج إلى دراسة ومن ثم ممارسة لتصبح موهبة مكتسبة ومن ثم إذا تم انتشارها بشكل واسع؛ قد تكون سمة ثابتة وفعالة تساهم على أقل تقديركدرع واق ضد الظواهر السلبية التي يعاني منها مجتمعنا الجميل، بل ربما تساند أيضاً في تحقيق أهداف وطموحات هذا المجتمع وتسريع عجلة التنمية والتقدم في كافة المجالات.