ترتكز هذه المقالة على مجموعة من المقالات القصيرة سبق لي أن نشرتها في جريدة عكاظ وفي فصول من كتابي بعنوان «نحو صحة أفضل»، تبدى لي أن أعود فأجمعها وأنسق فيما بينها وأنقحها.
الهدف منها هو التذكير بأننا بالإمكانات الصحية المتوفرة في بلادنا لو أحسن التخطيط لها، بناء على أسس علمية، وكان تفكيرنا من خارج الصندوق أي بعيداً عن النمط التقليدي الذي مارسناه عبر أجيال، لكانت الرعاية الصحية لدينا في المقدمة من الأمم. لا أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وأسأل الله أن يوفقنا جميعا لخدمة هذا البلد الأمين.
أنا متفائل.. ولكن يجب أن نفكر من خارج الصندوق.
أنا متفائل بالمستقبل لعدة أسباب منها ما توليه الدولة من اهتمام بالغ بتوفير الإمكانات المالية والبشرية للرعاية الصحية، ومنها ما جاء في تصريحات معالي وزير الصحة المهندس خالد الفالح لوسائل الإعلام حول توجهات الوزارة لتطوير «الرعاية الصحية الشاملة، والرعاية الصحية الأولية، والقوى البشرية، وتقنية المعلومات، والوقاية من الأمراض، وإعادة هيكلة الوزارة «.. كل واحدة من هذه الجوانب جديرة بأن تكون ملفا قائما بذاته، وجميعها توحي بأن الرجل يفكر من خارج الصندوق.
وزارة الصحة أمامها طريقان: إما أن يفكر مسؤولوها من داخل الصندوق أو من خارجه. إن فكروا من داخل الصندوق فسوف ندور في نفس الحلقة المفرغة من الإدارة التقليدية التي تتسم بالمركزية وبمحاولة الاستجابة لطلبات الناس أكثر من الاستجابة لاحتياجاتهم الحقيقية. من خلال تصريحات معالي الوزير يبدو لي أنه اختار البديل الثاني.. التفكير من خارج الصندوق. والمبررات لهذا النمط من التفكير كثيرة. ففي العقود الأخيرة طرأ كم هائل من التغيير في حياتنا. تغيرت خريطة الأمراض في بلادنا، واقتصاديات الصحة، ونمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتسعت دائرة اتصالنا بالعالم الخارجي. ومن ثم فلا مجال لأن تدار الرعاية الصحية بنفس الأسلوب الذي كانت تدار به على مدى عقود مضت.
من البساطة بمكان الظن بأن وزارة الصحة يمكنها أن تقوم بتطوير الرعاية الصحية وحدها بدون مشاركة ودعم أجهزة الدولة الأخرى بما في ذلك وزارات المالية، والتخطيط، والتعليم، والشؤون البلدية والقروية، والقطاعات الصحية الأخرى. ولذا فإن ملف الصحة يجب أن يكون على مكتب كل مسؤول في الدولة، فالصحة ليست مجرد غاية إنسانية نسعى إليها، وإنما هي إلى جانب ذلك وسيلة للتطوير الاجتماعي والاقتصادي للأمة.
لا مندوحة من تفعيل المجلس الصحي الذي تكون بمرسوم ملكي في عام 1430. على المجلس الصحي أن يرسم خارطة الطريق لرعاية صحية أفضل على مدى ربع قرن قادم، يتم فيها التنسيق بين جميع الأطراف المعنية، لتوفير رعاية صحية مبنية على أسس علمية، ومستندة إلى الإحصاء الحيوي، وقابلة للقياس.
التخطيط الصحي
الخطط الصحية في أكثر البلاد العربية توضع على أسس غير علمية، على سبيل المثال نجد أن أهداف الخطط كثيرا ما توضع استناداً إلى أعداد المستشفيات، والأسرة، والمراكز الصحية، والأطباء. بدلا من أن تستند إلى الإحصاء الحيوي أي معدلات الأمراض والوفيات، بما في ذلك وفيات الأطفال الرضع، ووفيات الأمهات الحوامل، ومعدل الإصابة بأمراض مثل السل أو البلهارسيا أو السرطان أو السكري، لا يكفي أن نتخذ من أعداد المستشفيات، والمراكز الصحية، والأسرة، والأطباء أهدافا نسعى إليها لعدة أسباب يأتي على رأسها:
- احتمال سوء التوزيع، إذ قد تحظى منطقة ما بنصيب الأسد من الموارد الصحية وتحرم منها أوتكاد مناطق أخرى.
- احتمال سوء الإدارة كأن ينشأ في منطقة ما مستشفى في حين أن الحاجة الحقيقية لمراكز رعاية صحية بتكلفة أقل وبمردود أفضل.
- عدم التوازن في صرف ميزانية الصحة كأن ننفق أموالا طائلة على المنشآت الطبية الضخمة أوعلى شراء أجهزة طبية قد لا نحتاجها، في حين أنه لو أنفق نصف هذه الأموال على إصحاح البيئة، أو التثقيف الصحي، أوبرامج التغذية لكان ذلك أولى.
بنظرة فاحصة على التقارير السنوية لمنظمة الصحة العالمية عن الوضع الصحي في دول العالم، نلاحظ أن مستوى الصحة لا يعتمد على عدد الأطباء والأسرة وميزانية الصحة، بقدر ما يعتمد على أسلوب إدارة الرعاية الصحية، نستطيع أن نستطرد إلى ما لا نهاية في نقاش العوامل التي تؤثر على مستوى الرعاية الصحية، ولكننا نستطيع أن نردها إلى عوامل ثلاثة أساسية هي:
- تخطيط صحي سليم يعنى بتحديد الأهداف والبدائل والأولويات، بأسلوب علمي، مبني على الإحصاء الحيوي.
- رعاية صحية شاملة تتسم بالتوازن بين ما يصرف من مال وجهد ووقت على الوقاية من الأمراض (إصحاح البيئة، والتثقيف الصحي، وبرامج التغذية، ورعاية الأمومة والطفولة.. إلخ) وما يصرف على العلاج.
- إدارة الموارد البشرية والمالية بأسلوب فعال. يعتمد على اللامركزية في التنفيذ.
تحديد الأهداف
على رأس عشرة ملفات، أكاد أراها رأي العين لتطوير الرعاية الصحية، يأتي ملف «تحديد الأهداف بأسلوب علمي». تلك مشكلة تشاركنا فيها جميع البلاد العربية، ولكي ألخص ما أعنيه أعود إلى سطور من كتابي (الرعاية الصحية.. نظرة مستقبلية). «عندما من الله علي -مع بداية الطفرة الاقتصادية في بلادنا- بمبلغ من المال قررت أن ابني فيلا صغيرة على قدر فلوسي. نقلت فكرتي إلى المهندس المعماري.. أريدها فيلا جميلة صغيرة مريحة تكفيني وأسرتي وفي حدود ميزانيتي. قال لي المهندس.. هذا كلام عام. تعال نتحدث بلغة الأرقام. ما مساحة الأرض؟ ما مساحة البناء؟ كم ارتفاع الفيلا؟ ما طولها وما عرضها؟ كم عدد الغرف؟ كم مساحة كل غرفة؟ وبدأ مشوار التخطيط للفيلا بحساب المتر والسنتيمتر.
التخطيط الصحي لا يختلف من حيث المبدأ عن إنشاء عمارة أو صنع سيارة أو حتى قلم حبر، يجب أن يستند إلى أرقام قابلة للقياس حتى يمكن تحويله من فكرة إلى حدث، من المؤسف أن الخطط الصحية في أغلب دول العالم النامي ومنها الدول العربية تندرج تحت باب:
منى إن كن حقاً فهن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
كثيراً ما نجد في الخطط الصحية تعابير عامة غيرمحددة يصعب قياسها مثل: «تهدف الخطة إلى إيصال الرعاية الصحية إلى جميع السكان» أو»سوف نحقق مستوى مرتفعاً من الرعاية الصحية». أوقد نجد في الخطط الصحية أرقاماً لا تعبر عن الأهداف بقدر ما تعبر عن الوسائل. مثال ذلك أن تهدف الخطة إلى مضاعفة عدد الأسرة، أو الارتفاع بمعدل الأطباء، أو إنشاء 200 مركز صحي.
التخطيط الصحي يجب أن تصاغ أهدافه بناءً على الإحصاء الحيوي. أهداف قابلة للقياس في فترة زمنية محددة. ومن ثم فهي قابلة للمتابعة والتقييم.
البدائل والأولويات
في زمن مضى كان لدي اهتمام ببحثين في نفس الآونة. أولهما عن تواجد مرض الفيل في المملكة (مرض يسببه طفيلي يصيب الأوعية اللمفاوية في الجسم خاصة في الأطراف وينتج عنه تضخم فيها)، والثاني عن احتياجات المملكة إلى القوى البشرية الصحية. أجريت دراستي عن مرض الفيل في بعض مناطق المملكة فوجدته من الندرة بمكان إذ لم أجد غير حالات محدودة وثقتها بالصور، وقمت بدراسة حاجة المملكة إلى القوى البشرية التي تعد من أهم العوامل لتطوير الخدمات الصحية إن لم تكن أهمها. نقلت نتائج الدراستين إلى مسؤول في الصحة، فوقف طويلا أمام صور مرضى الفيل (المرعبة). أشاد بالبحث، وأكد على ضرورة الاهتمام بالموضوع. في حين أن دراسة القوى البشرية لم تحظ منه بجزء من هذا الاهتمام. هذه صورة حية للأوليات عندما توضع بناء على الانطباعات بدلا من الاستناد إلى حقائق.
ليس المطلوب عند استعراض البدائل والأولويات إما أن نحقق هذا أو ذاك منها، وإنما هو إيجاد التوازن السليم بين الخيارات. أضرب فيما يلي أمثلة للبدائل والأولويات التي يجب أن نضعها نصب أعيننا ونحن في سبيلنا لتخطيط صحي بأسلوب علمي.
- مراكز الرعاية الصحية الأولية أقل تكلفة وأجدر بتوفير الرعاية الصحية الشاملة مقارنة بالمستشفيات. ترى هل من الأولى التوسع في إنشاء المستشفيات أم المراكز الصحية؟
- هل من الأولى لوزارة الصحة الاستمرار في إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية أم تركها (تدريجياً) للقطاع الخاص مع إلزامه بمعايير الجودة، وتوفير التأمين الصحي لأفراد المجتمع. ومن ثم تتفرغ الوزارة للتخطيط، وتطوير القوى البشرية، والبرامج الوقائية، والمتابعة والتقييم. بدلا من الانشغال بالتنفيذ؟
- أفضل رعاية صحية تلك التي تقدم إلى الفرد قريبا منه ومن أسرته وتعنى بالرعاية الصحية الشاملة (الوقائية والعلاجية) والممتدة (قبل المرض وبعده). ترى هل من الأولى في بلادنا المترامية الأطراف التوسع في إنشاء المدن الطبية الضخمة والمكلفة والتي قد يشد المريض إليها الرحال، أم إنشاء المؤسسات الصحية الصغيرة والمتوسطة القادرة على الوصول إلى الفرد مع أسرته وفي بيئته؟
- من المعروف أن صرف ما يعادل 2.5% من ميزانية الصحة على برامج تعزيز الصحة (أساسها التثقيف الصحي الذي ينتهي بتغيير أسلوب الحياة إلى الأفضل) يمكن أن ينتهي بتحسن ملموس في مستوى الصحة. ترى هل يمكننا أن نأخذ بهذا البديل في توزيع ميزانية الصحة؟
- مناهج كليات الطب في العالم العربي تهيئ الأطباء أكثر ما تهيئهم للعناية بعلاج الإنسان بعد أن يمرض أضعاف عنايتهم بوقايته من المرض. ترى هل آن الأوان لإعداد أجيال من الأطباء وبقية أفراد الفريق الصحي يجمعون في اهتماماتهم بين الوقاية والعلاج؟
- يوجد لدينا 3 فنيين صحيين مقابل كل طبيب، في حين أن المطلوب هو10فنيين صحيين مقابل الطبيب الواحد. ترى هل آن الأوان لتصحيح هذا المعدل؟
- الميزانية المخصصة للصحة في أي مجتمع ميزانية محددة لها أول ولها آخر. ترى أيهما أفضل؟ التركيز على إنشاء المباني وشراء الأجهزة والمعدات أم تنمية القوى البشرية الصحية كما وكيفا؟
- اللامركزية في التنفيذ مبدأ تنادي به منظمة الصحة العالمية ويؤكده العقل والمنطق. ترى هل آن الأوان لتفويض أكبر قدر ممكن من الصلاحيات المالية والإدارية لمديري الشؤون الصحية، ومديري المستشفيات، ومديري المراكز الصحية، ذلك حتى تتفرغ الوزارة للتخطيط والتطوير والمتابعة والتقييم؟
- هل من الأولى إشراك أفراد مختارين من المجتمع في تخطيط الرعاية الصحية، وتنفيذها ومتابعتها وتقييمها؟ الأمر الذي تدعو إليه تجارب كثير من الدول المتقدمة، وتشجعه منظمة الصحة العالمية.
هذه بضعة نماذج للبدائل والأولويات التي يجب أن نضعها أمامنا ونحن نخطط لمستقبل الرعاية الصحية، وليكن تفكيرنا من خارج الصندوق.
اللامركزية
تطوير الرعاية الصحية في بلادنا رهين بإجراء عدة إصلاحات في الإدارة الصحية، فالإمكانات المادية والبشرية التي وفرتها الدولة للقطاع الصحي لو أحسن التخطيط لها وإدارتها لكنا في مقدمة الدول من حيث الرعاية الصحية. يأتي على رأس هذه الإصلاحات الإدارية المطلوبة اللامركزية.
دعونا نستعرض بعض أوجه الموارد المادية والبشرية في القطاع الصحي. يوجد في المملكة (في عام 1434) 425 مستشفى تضم نحوا من 65.000 سريراً. وحوالي 2500 مركز صحي.كما أن لدينا 81.000 طبيب و155.000 ممرض وممرضة. هذا الكم من المستشفيات والمراكز الصحية والأطباء والممرضين والممرضات كاف لمواجهة احتياجاتنا بكفاءة عالية لو أحسن الاستفادة منه، ولن يحسن الاستفادة منه طالما أن وزارة الصحة بالرياض مشغولة بالإشراف على مديريات الشؤون الصحية والقطاع الصحي الخاص. إذ لن يكون لدى الوزارة الوقت أو الجهد الكافي للتخطيط، ووضع المعايير، والمتابعة، والتقييم. أفضل دور يمكن للوزارة أن تقوم به هو: التمكين، والتفويض، والمحاسبة.
توصي الدراسة التي وضعها الاتحاد الأوروبي عن التطوير الصحي باللامركزية في الخدمات الصحية. من فوائد اللامركزية حسب ما جاء في الدراسة: الارتفاع بمستوى الأداء، والتطبيق الأفضل للاستراتيجيات الصحية، وتنشيط القدرة على الإبداع. كذلك أوصت الدراسة التي قام بها المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في جنوب شرق آسيا باللامركزية في القطاع الصحي كوسيلة للتطوير. وأوصت وثيقة مؤتمر ألما آتا التي وقعها ممثلون من 134 دولة باللامركزية كوسيلة للإصلاح الإداري في القطاع الصحي.
باختصار.. لكي تتفرغ وزارة الصحة لعملها الأساس وهو التخطيط، والتنسيق، والمتابعة، والتقييم، يجب أن تتخلص من التنفيذ إلا في حدود ضيقة. وذلك بإعطاء كافة الصلاحيات المالية والإدارية لمديري الشؤون الصحية. وهؤلاء عليهم أن يفوضوا صلاحياتهم إلى مديري المستشفيات والمراكز الصحية بعد حسن الاختيار والتدريب، بحيث يصبح لكل مستشفى ولكل مركز صحي ميزانيته الخاصة به حسب عدد السكان الذين يخدمهم وطبيعة المنطقة والمشاكل الصحية التي فيها. على أن ينشأ في كل مستشفى ومركز صحي مجلس إدارة يشارك فيه أفراد من المجتمع. ومن ثم يطالب الجميع بالنتائج. من أحسن يكافأ ومن أساء يحاسب.. أما الخطوة الثانية في عملية التفويض فهي أن تفوض وزارة الصحة مسؤولية تشغيل المستشفيات (وليس المراكز الصحية) إلى القطاع الخاص.
أعود إلى التصاريح التي أدلى بها معالي وزير الصحة إلى وسائل الإعلام من أن وزارة الصحة تسعى إلى توفير الرعاية الصحية الشاملة، والارتقاء بمستوى الرعاية الصحية الأولية، وتطوير القوى البشرية العاملة في القطاع الصحي. أجدني متفائلا لأن ما قاله معالي الوزير يعني أن الوزارة سوف تتفرغ للتطوير بما في ذلك وضع الأهداف والمعايير والمساندة والتقييم، وتترك عملية التنفيذ على المستوى المحلي لمديريات الشؤون الصحية.
سوف أفترض هنا أن وزارة الصحة ومعها وزارة المالية اتفقتا على إعطاء كل مديرية شئون صحية ميزانيتها الخاصة بها تبعا لعدد سكان المنطقة وطبيعتها الجغرافية ونوعية المشاكل الصحية فيها، مع كافة الصلاحيات المالية والإدارية التي تتيح لها الفرصة للحركة والإبداع، ومديريات الشؤون الصحية قامت بدورها بإعطاء الصلاحيات من أجل الحركة والإبداع لمديري المستشفيات والمراكز الصحية، وخصص لكل مستشفى ومركز صحي ميزانية محددة يشرف على صرفها مجلس إدارة يشارك فيه أفراد مختارون من المجتمع. ذلك بعد الإعداد الجيد الذي يتمثل في حسن اختيار المسؤولين، وتدريبهم على أسلوب الإدارة بالأهداف.
لو أن وزارة الصحة أخذت بهذا الاتجاه فستكون قد بذرت بذلك بذور الإصلاح الحقيقي للرعاية الصحية. لن نكون في ذلك بدعة إذ إن أكثر البلدان المتقدمة اقتصاديا طبقت هذا المفهوم الذي يتلخص في كلمات قلائل توجه إلى المسؤول بعد أن يحسن اختياره «سوف نوفر لك كل الإمكانات الممكنة، ونعطيك كافة الصلاحية للتصرف. ثم نقيم النتائج التي أحرزتها. نكافئك إن أحسنت، ونحاسبك لو أسأت». أتمنى ألا يفاجئني أحدكم كما فاجأني ذات يوم مسؤول كبير في الصحة طرحت عليه الفكرة فكان جوابه: وأين هم المديرون الذين تطمئن النفس إلى إعطائهم الصلاحيات. عجبي.. وهل تراها أعقمت!
ماذا عن الأطباء؟
أما وقد أعلنت وزارة الصحة أنها سوف تنتهج نظام الرعاية الصحية الشاملة وتطوير مراكز الرعاية الصحية الأولية. فقد وجب أن تعد الوسائل لتحقيق هذا التوجه. على رأس هذه الوسائل يأتي إعادة النظر في مناهج التعليم الطبي في كليات الطب. مناهج كليات الطب -في البلاد العربية- تعد الطبيب أساسا لعلاج الإنسان بعد أن يمرض، ولا تهيئه بقدر كاف لوقاية الإنسان من أسباب المرض ببرامج مثل: التثقيف الصحي، وصحة البيئة، والتغذية، والصحة النفسية والعقلية، والوقاية من الأمراض السارية والمزمنة.. إلى آخر القائمة.
عندما كنت طالبا في كلية الطب كانت أحلامي وزملائي تتلخص في تحقيق خمسة أشياء تبدأ كلها بحرف العين: العيادة، والعمارة، والعزبة، والعربية، والعروسة (العريس للبنات). جميعها متطلبات بشرية لا اعتراض عليها، ولكن ينقصها بعد سادس ذلك هو المسؤولية الاجتماعية. أن نعمل جاهدين لكي نحول بين الإنسان والمرض.
ولو أنك سألت 100 طبيب عن أهدافهم في الحياة لأجابك 90% منهم بأنها العناية المثلى بالمرضى. ولو أنك سألت أحدهم. وما الدور الذي تقوم به أنت لوقاية أفراد المجتمع من مشاكل صحية مثل السكري، وضغط الدم، وأمراض القلب والشرايين، والسرطان، وحوادث السيارات، وأمراض الطفيليات والميكروبات والفيروسات، وجميعها يمكن الوقاية منها قبل وقوعها لما حار جوابا، أو لربما قال هذه ليست «شغلتي»! أما وقد أعلن معالي وزير الصحة بأن توجه الوزارة هو تقديم الرعاية الصحية الشاملة (الوقاية والتطوير والعلاج)، فإني أتطلع إلى أن يناقش معاليه هذه القضية مع معالي وزير التعليم ليربطا بين أهداف التعليم الطبي وأهداف الرعاية الصحية الشاملة.
الفنيون الصحيون
يشير كتاب الإحصاء السنوي لوزارة الصحة لعام 1434 إلى أن لدينا 81.000 طبيب، و155.000 ممرض وممرضة، و91.000 من الفئات الطبية المساعدة. أي أن هناك 3 ممرضين وممرضات ومساعدين صحيين لكل طبيب. وللتوضيح فإن الفنيين الصحيين يعملون في أكثر من 30 مجالا صحيا في المستشفيات والمراكز الصحية وغيرها. من هذه المجالات التمريض، والمختبرات، والأشعة، والصيدلة، والعلاج الطبيعي، والتغذية، وصحة البيئة، ورعاية المعوقين، والإدارة الصحية، والإحصاء الطبي.. إلخ.
سوف نركز هنا على النقص الذي نعانيه في هيئة التمريض لأن الإحصاءات الدولية في هذا المجال أكثر دقة. وما ينطبق على هيئة التمريض ينطبق على بقية الفنيين الصحيين. في بريطانيا في عام 2008 كان يوجد 11 ممرضا وممرضة لكل 1000 نسمة. وتبعا لإحصائيات البنك الدولي لعام 2012 كان يوجد في المتوسط 12 ممرضا وممرضة لكل 1000 نسمة في كل من النرويج, واليابان واستراليا، وكندا. أما في المملكة العربية السعودية فيوجد (في عام 2014) فقط 4.8 ممرض وممرضة لكل 1000 نسمة أكثر من ثلثيهم وافدون.
إلى قبل بضع سنوات مضت كان لدينا أكثر من 100 معهد صحي أهلي أقفلت لسبب أو لآخر. قيل أننا في حاجة إلى مستوى أفضل من التدريب وهذا كان بالإمكان تحقيقه بشيء من الجهد والتخطيط السليم وتضافر الجهات المعنية بدلا من الإقفال. كما قيل إننا لا نريد الدبلومات الصحية وإنما درجات البكالوريوس. بينما في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا نجد أن كثيرا من أفراد هيئة التمريض والمساعدين الصحيين في مجالات مثل الصيدلة، والعلاج الطبيعي، والأسنان، والطب الوقائي، والبصريات وغيرها يتلقون تدريبهم لمدة سنتين ثم يستمر تدريب من يرغب منهم على رأس العمل.
ما مدى حاجتنا إلى الفنيين الصحيين؟
في محاولة لاستقراء حاجتنا إلى الفنيين الصحيين بعد 25 سنة أي في عام 2040 نرجع إلى كتاب الإحصاء السنوي لوزارة الصحة لعام 2013. نجد أن عدد سكان المملكة 30 مليون نسمة, ومعدل الزيادة السنوية 2.7%، ومن ثم فالمتوقع أن يتضاعف عدد السكان في عام 2040 ليصبح نحوا من 60 مليون نسمة. كما نجد أن عدد المساعدين الصحيين في المملكة 92.000 ( 69% منهم سعوديون)، وهيئة التمريض 155.000 (35% منهم سعوديات). أما القطاع الصحي الخاص فنسبة السعوديين فيه لا تزيد عن 4% فقط من مجموع الفنيين الصحيين!
لنتحدث بداية عن هيئة التمريض. لو افترضنا أننا نخطط بعد 25 سنة من اليوم للوصول إلى معدل 10 ممرضين (إناث وذكور) لكل 1000 من السكان وهو ما يقارب المعدل الذي حققته كثير من الدول اليوم. وإذا خططنا لأن يكون 60% منهم سعوديون بدلا من 35% كما هي نسبتهم اليوم، سنجد إننا سنكون في حاجة إلى 360.000 ممرض وممرضة سعوديين.
ولو افترضنا أن حاجتنا إلى المساعدين الصحيين السعوديين آنذاك هي نفس حاجتنا إلى هيئة التمريض، فإن هذا يعني أننا سنكون في حاجة إلى تدريب نحو من 720.000 فني صحي سعودي في غضون 25 سنة قادمة (العدد الحالي 117.000 فني صحي سعودي استغرق إعدادهم أكثر من 60 سنة). علما بأن الموجودين حاليا لن يكونوا يومها على رأس العمل لدواعي التقاعد أو تغيير طبيعة العمل أو الوفاة.
أتوقع أن لدي إدارة التخطيط في وزارة الصحة حساباتها عن حاجتنا إلى الفنيين الصحيين مستقبلا. ليتها تفصح عنها، لأن قضية الفنيين الصحيين ليست قضية صحية فقط، وإنما هي إلى جانب ذلك قضية اجتماعية (عوامل الدين واللغة)، وأمنية (أثناء حرب الخليج الثانية وطلبا للأمان غادرت المملكة أعداد لا حصر لها من العمالة الصحية الوافدة)، واقتصادية (تشغيل الأيدي السعودية في المجال الصحي).
مشاركة المجتمع
يقول د. ماهلر مدير عام منظمة الصحة العالمية الأسبق «المجتمع الذي لا يشارك بعضه أو بعض أفراده في شؤونه الصحية، ويباشرون مسؤولياتهم فيه، مجتمع لا يمكن أن يحظى برعاية صحية جيدة مهما كانت الإمكانات المتوفرة له». كما يقول في نفس السياق «سوف تتحسن الصحة فقط إذا شارك الناس أنفسهم في التخطيط والتنفيذ، وكان لهم رأي حيال الرعاية الصحية المقدمة لهم، ولكن هذه المشاركة لا تحدث اعتباطا، يجب أن نسأل أنفسنا إلى أي مدى نحن جادون في إشراك الأفراد والأسر والمجتمعات في قضاياهم الصحية؟
هناك نماذج دولية كثيرة لمشاركة أفراد متطوعين من المجتمع في تخطيط ومتابعة وتقييم البرامج الصحية أقتصر فيها على نموذج من فنلندا. الخدمات الصحية في فنلندا مسؤولية المجتمع المحلي (commune) والذي يقل عدد سكانه عادة عن 100.000 نسمة. يشرف على الخدمات الصحية فيه جنبا إلى جانب مع الإدارة الصحية أفراد متطوعون من المجتمع منهم المعلم والتاجر والصانع والموظف، يتخذون معا جميع القرارات الخاصة بالخدمات الصحية في مجتمعهم تخطيطا وتنفيذا ومتابعة وتقييما، ولديهم ميزانية يتصرفون فيها. من حقهم أن يوظفوا، أو يدربوا، أو يضيفوا أسرة إلى المستشفى القائم، أو يستحدثوا مركزا صحيا جديدا. يفعلون كل ذلك بدون الرجوع إلى أي سلطة عليا، فقط أمامهم أهداف سبق أن وضعتها وزارة الصحة في العاصمة هلسنكي عليهم أن يحققوها. في نهاية العام يعرضون نتائجهم (مبنية على الإحصاءات الحيوية)، حيث تقارن بنتائج المجتمعات المحلية الأخرى. إن أحسنوا كوفئوا بمزيد من الدعم المالي، وإن أساؤوا حوسبوا.
لست أدعو على الإطلاق إلى تطبيق تجارب الآخرين في بلادنا بحذافيرها فلكل مجتمع خصوصياته، ولكني أدعو إلى أن نفكر خارج الصندوق، والى أن نتعلم من تجارب الآخرين، وألا نقيد أنفسنا بمفاهيم مسبقة. ذلك أن الصحة ليست فقط غاية نسعى إليها وإنما هي أيضا وسيلة للرقي الاجتماعي والاقتصادي، فالإنسان الصحيح إنسان منتج.
لي تجارب مع مشاركة أفراد المجتمع في الخدمات الصحية، أستعرض بعضها للتدليل على استعداد أفراد المجتمع لمثل هذه المشاركة:
- درجت على أن أصطحب طلابي في كلية الطب إلى بعض القرى للتدريب الميداني من أجل التعرف على الأوضاع الصحية في المجتمع. ذهبنا إلى قرى الأسياح بالقصيم, وتمنية بعسير، والجموم في وادي فاطمة، والعلا. في كل مرة كنا نقضي نحوا من 10 أيام في التدريب الحقلي. كنا نشرك المدرسات في عرض أفلام التثقيف الصحي على النساء، ونشرك مدرسي المدرسة في عمل البيانات الإحصائية للسكان، وغير هذه وتلك من النشاطات. كما كنا نخصص يوما من أيام التدريب نشترك فيه جميعا أساتذة وطلاب الطب ومعلمي وتلاميذ المدارس في تنظيف القرية.
- في زيارة لي لبعض قرى الباحة قال لي طبيب المستوصف أنه لا يقوم بأي عمل وقائي لأن وقته كله يذهب لعلاج المرضى. سألته: ما إمكانية أن يفوض عملية التشخيص المبدئي وعلاج الحالات البسيطة للمساعد الصحي أو الممرضة (بعد التدريب المناسب) كما يحدث في كثير من بلدان العالم، إذ إنه من المعروف علميا أن نحوا من 70% من المرضى المترددين على المراكز الصحية لا يحتاجون إلى حبة دواء. أجابني -بما توقعت- أن الوزارة لا توافق كما أن المجتمع نفسه لا يقبل. سعيت إلى لقاء وجهاء القرية لاستطلاع رأيهم في بديلين: أولهما أن يقوم الطبيب بفحص وعلاج جميع المرضى، وبالتالي لن يكون لديه الوقت لقيادة فريقه الصحي من أجل تقديم برامج وقائية أو تطويرية للمجتمع مثل إصحاح البيئة والتغذية والتثقيف الصحي.. إلخ. أما البديل الثاني فهو أن يفوض الطبيب علاج الحالات البسيطة للمساعد الصحي بحيث يصبح لديه الوقت للبرامج الوقائية والارتفاع بمستوى الصحة. بداية رفضوا البديل الثاني باعتبار.. ماذا لو أخطأ المساعد الصحي؟. بعد حوار أوضحت فيه أن هذا النموذج معمول به في كثير من دول العالم لكي يستطيع الطبيب أن يؤدي دوره في الرعاية الصحية الشاملة العلاجية والوقائية تقبلوا فكرة أن يوزع الطبيب وقته بين الوقاية والعلاج.
- في دورة تدريبية أقمتها لبعض الأطباء في قرى بنجلاديش، خصصت أحد أيام التدريب لتنظيف القرية، قمنا جميعا وفي أيدينا (المكانس والزنابيل) بتنظيف القرية، وسرعان ما انضم ألينا القرويون. ولم نترك القرية إلا وقد أصبحت (تلمع) من النظافة. المغزى هو أن الصحة ليست مجرد صرف حبة الدواء أو إعطاء (الشرنقة)، وإنما هي أبعد مدى من ذلك بكثير. هي توفير البيئة الصالحة في المجتمع يدا بيد مع أفراده، كما أن أفراد المجتمع لديهم الاستعداد للمشاركة في الخدمات الصحية لو أعطوا الفرصة لذلك.
خاتمة المطاف:
في العقود الأخيرة تغيرت خارطة الأمراض على مستوى العالم، ونحن في منطقتنا العربية لسنا بمنجاة من هذا التغيير. قبل أربعة عقود أو نحوها كان أساتذة الطب يركزون في تدريسهم لطلاب الطب على الأمراض المعدية باعتبارها الأمراض السائدة في المجتمع، واليوم نجد الأمراض المزمنة مثل السرطان، وأمراض القلب والشرايين، وحوادث السيارات، ومرض السكري تأخذ مقام الأولوية. في الوقت نفسه تغيرت مفاهيم كثيرة في اقتصاديات الصحة. أصبح هناك توجه عالمي للتوسع في إنشاء مراكز الرعاية الصحية الأولية كبديل للمستشفيات الضخمة، وإنشاء مستشفيات اليوم الواحد التي يدخلها المريض لإجراء العملية الجراحية صباحا ويخرج منها عصرا إلى بيته، ومراكز الرعاية الصحية المنزلية حيث يذهب الممرض أو الممرضة أو أخصائية العلاج الطبيعي أو التغذية إلى المريض في بيته بدلا من أن يذهب هو إلى المستشفى، وقد يتواصل الطبيب مع مريضه وهو في بيته إليكترونيا.
واليوم تتنامى تقنيات الجراحة بالروبوت. الجراح في الرياض أو واشنطن والمريض على طاولة العمليات في حفر الباطن. والأبحاث في تقنيات النانو والخلايا الجذعية تعد بطفرات في الوقاية والعلاج ما كان للإنسان أن يتصورها قبل عقود قليلة مضت.
ومن ثم فالرعاية الصحية في تخطيطها وتنظيمها وإدارتها يجب أن تتغير هي الأخرى عما ألفناه قبل عقود مضت. وإلا سنجد أنفسنا متخلفين عن الركب، يأتي على رأس التغييرات التي نحتاجها لكي نواكب متغيرات العصر إعادة النظر في الأهداف والخطط والبرامج والأولويات، وفي طرق إعداد وتدريب القوى البشرية، وفي أهداف وأساليب التعليم الطبي في كليات الطب والمعاهد الصحية.
على مستوى العالم تدعو المنظمات الدولية إلى تفتيت المركزية وإعطاء صلاحيات أكبر لمديري المناطق الصحية ومديري المستشفيات والمراكز الصحية، مما يمكنهم من الحركة والإبداع بما يتلاءم مع الوضع الصحي في مجتمعاتهم، ودون الرجوع إلى الإدارة المركزية إلا للضرورة القصوى، ومن ثم محاسبتهم على النتائج،كما تدعو إلى إشراك أفراد من المجتمع في التخطيط الصحي والمتابعة والتقييم.
الدعوة قائمة إلى تنشيط القطاع الخاص الصحي كيما تتفرغ وزارة الصحة للتخطيط والمتابعة والتقييم ووضع معايير الجودة، إلا أن هناك نشاطات لا يحسن بوزارة الصحة أن توليها للقطاع الخاص مثال ذلك مراكز الرعاية الصحية الأولية (التي تقدم الوقاية جنبا إلى جنب مع العلاج)، وعلاج الحميات، وبقية النشاطات الوقائية، هذه النشاطات ليست مغرية ماديا للقطاع الخاص وقد لا يوفيها حقها.
هذا بعض ما أردت أن أقوله، وقد سبق لي أن تحدثت عن المستشفيات المعززة للصحة، والرعاية الصحية الأولية وطبيب الأسرة وبرامج تعزيز الصحة، ومناهج التعليم الطبي. أسأل الله أن يوفق ولاة أمورنا ومسؤولينا، وأن يسدد خطاهم، وأن يعينهم على ما يقومون به من جهود في سبيل الإصلاح.
- د. زهير السباعي